إنني كصقر محلق يري فضاء هذا العالم الفسيح ضيقا لطيرانه ، وإنني لأتعجب منكم ، إذ تريدون أن تحبسوني في هذا القفص الصغير"، هكذا وصف رائد الإصلاح في العصر الحديث ، الفقيه والباحث والعالم " جمال الدين الأفغاني"(1839 – 1897) نفسه والعالم من حوله ، وربما توضح لنا هذه المقوله الكثير من شخصية الأفغاني، الذي وهب نفسه وعقله وقلبه لخدمة الحق والعدل والإنسانية ورغم ذلك عاش وحيدا ،شريدا، طريدا ومات مقتولا. ورغم شهرته إلا أن أصل موطنه مازال يشوبه الغموض ، حيث اختلف المؤرخون حول موطنه فبعضهم قال أنه ولد في أفغانستان، وقال البعض الآخر أنه ولد في إيران ونشأ في بلاد الأفغان وقيل أنه ينتسب الي الامام الحسن بن علي رضي الله عنهما، ولكن أكثر المصادر وأهمها تؤكد أنه ولد في قرية " أسعد آباد" وهي احدي القري التابعة لكابل عاصمة أفغانستان حاليا ، وبعيدا عن هذا الجدل واللغط الذي أثير حول نشأة الأفغاني ، نحن أمام أحد المناضلين الصامدين ، فهو من كرس حياته للدفاع عن الاسلام والدول الإسلامية التي يتهددها خطر الاستعمار الأوروبي ، وهو من دعي الي إيقاظ العالم الإسلامي من سباته العميق لكي يواجه الخطر المحدق به ، خطر التخلف والاحتلال. ظهرت دعوة الأفغاني الي وحدة العالم الإسلامي ضد الخطر الأوروبي في الوقت الذي بدأت تظهر فيه قوة الدول الأوروبية وضعف الدول الإسلامية بصفه عامة والدولة العثمانية بصفه خاصة وكان الحل بالنسبه لرجال الدين في ذلك الوقت هو وحدة العالم الإسلامي حول الخليفة أو السلطان وطاعته وعدم الثورة عليه ، وكان هذا الحل بالطبع يختلف مع فكر الأفغاني الثائر الذي يدعو للثورة ضد الظلم والاستبداد ولذلك تعرض للنفي من أي بلد ذهب اليه ، حتي أعد نفسه للنفي في أي لحظه. قضي جمال الدين الأفغاني فترة من شبابه في إيران والهند ،وفي الهند درس العلوم والرياضيات الحديثة ، ثم ذهب بعد ذلك الي أفغانستان حيث اشتغل بالسياسة حتي وصل الي درجة وزير، وعندما قام انقلاب في أفغانستان ضد الحكومة بمساعدة الانجليز ، ذهب الي الحجاز ، ومنها الي الهند ولكنه طرد من الهند فذهب إلى اسطنبول ثم نفي من تركيا إلى القاهرة ، وفي القاهرة وجد ترحيبا من رياض باشا رئيس الوزراء الذي خصص له معاشا شهريا قدرة عشر جنيهات واستمر في القاهرة مدة ثماني سنوات من عام 1871 – 1879 وكانت أهم سنوات حياته حيث كون خلالها مجموعة تلاميذ لعبوا دورا مهما في مستقبل مصر السياسي منهم " الامام محمد عبده ، سعد زغلول، محمود سامي البارودي، عبدالسلام المويلحي، أحمد لطفي السيد" حيث كان يلتقي بتلاميذه يشرح لهم مفهوم الاسلام الصحيح وأصول الشريعة والتصوف والفلسفة الإسلامية التي كان يحرمها الأزهر في ذلك الوقت. رحلة الأفغاني في مصر انتهت نهاية محزنة حيث تم القبض علي الأفغاني وخادمة أبي تراب عام 1871 وأودعا باخرة سارت بهما الي بمباي بالهند حيث وجهت له تهمة "رئاسة جمعية سرية من الشبان ذوي الطيش مجتمعة علي فساد الدين والدنيا" ، وكان هذا النفي في عهد الخديوي توفيق الذي كان صديقا للأفغاني قبل أن يصبح خديوي مصر ويقال أن النفي كان بايعاز من الانجليز بسبب أفكار الأفغاني الثورية وتطلعاته للإستقلال السياسي ومهاجمته للاستبداد. ويتحدث أستاذ الفلسفة الإسلامية الدكتور علي مبروك عن جمال الدين الأفغاني قائلا " الدور العظيم الذي قام به جمال الدين الأفغاني عندما جاء الي مصر كان دورا سياسيا ولم يكن دورا معرفيا أو علميا ، حيث أسس لحركة ذات طبيعة سياسية ، وبدأ يطرح أطروحات ضد الاستبداد وما له من آثار سلبية علي تقدم الشعوب وكان يقول للمصريين " انكم معشر المصريين ، قد نشأتم في الاستعباد وربيتم بحجر الاستبداد ، أنت أيها الفلاح المسكين تشق قلب الأرض لتستنبت ما تسد به الرمق وتقوم بأود العيال فلماذا لا تشق قلب ظالمك ، هذه الدعوة ضد الاستبداد بدأت تستقطب عدد من المصريين حولها ومنهم "محمد عبده ، سعد زغلول " ، أما الجانب الفكري عند الأفغاني فكان متعلقا بفتح باب الاجتهاد في الدين ، وهذه الفكرة التي تأثر بها من بعده الامام محمد عبده ، وبعد احتلال الإنجليز لمصر بعد الثورة العرابية ، وجد الأفغاني أن الاشتغال علي السياسة والتركيز علي المسألة السياسية أورث مصر الإستعمار ومن هنا رأي أنه لا تغيير سياسي دون وجود قاعدة فكرية وثقافية وبدأ في هذا الوقت الدور المعرفي والفكري للأفغاني". وعن علاقته بالماسونية يوضح مبروك "الكثير من العلماء والمؤرخين أكدوا علاقة الأفغاني بالمحافل الماسونية ، ولا أملك معلومة مؤكدة في هذا الموضوع ، ولكن ما أدركه جيدا هو أن الماسونية في تلك الفترة الزمنية لم تكن كما نراها نحن اليوم بل كانت منظومة فكرية إنسانية عالمية تقوم على فكرا انسانيا منفتحا على كل الحضارات والثقافات". طاف الأفغاني وتنقل بين الكثير من البلاد ولكن أستاذ الفلسفة الاسلامية علي مبروك يري أن الأثر الأكبر لفكر وعلم الأفغاني كان في مصر حيث يقول " ستظل اللحظة المصرية في حياة جمال الدين الأفغاني هي الأهم والأكثر عمقا وأثرا ، لأنه أسس في مصر مدرسة فكرية جديدة وهذه المدرسة هي التي أسست للخطاب الإصلاحي فيما بعد". وعن نشأته يقول " جمال الدين الأفغاني غامض فيما يخص النشأة فالبعض يري أنه ولد في ايران والبعض الآخر يقول أنه ولد في أفغانستان ، وأعداؤه يزعمون أنه شيعيا ولكني أري أننا لا يمكن أن نحسب الأفغاني علي الفكر الشيعي حتي لو كان إيرانيا لأن تجديده أثمر في إطار الإسلام السني ولم يثمر في إطار الاسلام الشيعي ولذلك أعتقد أن الحديث عن إيرانيته وشيعيته سيظل حديثا مكذوبا". ويضيف مبروك " أفكار الأفغاني كانت تعمل على تحقيق الإستقلال بمستوياته السياسية والثقافية ، والحرية لديه تأتي في إطار أوسع وتحمل بعدا ثوريا حيث كان يدعو الى الثورة علي التقاليد في الشرق ويعتبر العدالة أساسا للتغيير وغاية له في الوقت نفسه". ويتابع مبروك " كثير من الأسئلة التي طرحت في القرن التاسع عشر مازالت مفتوحة وبدون إجابة اليوم والكثير من الآراء لم يتم الأخذ بها لأن المجتمعات العربية قد حولت الأفغاني وغيره من دعاة النهضة والتحديث الي مجرد رموز وأساطير ولم تقرأ تجاربهم بشكل جيد ولم تتعرف علي أفكارهم مع أن المشاكل نفسها مازالت قائمة ويبدو أنها ستظل قائمة. " علي مبروك : المجتمعات العربية حولت الأفغاني الي مجرد رمز وأسطورة ولم تقرأ علمه وفكره