حين آل حكم مصر إلي إسماعيل.. سارع بشراء فرمان الوراثة لأكبر أبنائه »توفيق« الذي ارتبط بإسماعيل بعلاقة جافية يكتنفها الغموض.. وقد ولد توفيق في 51 نوفمبر عام 2581م (أي قبل مائة عام من قيام ثورة يوليو عام 2591م) ولم يكن والده إسماعيل قد تجاوز الثانية والعشرين.. ووالدته هي »شوق نور هانم« إحدي جواري إسماعيل.. وما أكثرهن »من شركسيات وحبشيات«.. وطبقا لقواعد الحريم العثمانلي السلطاني فإن الرجل لايعبأ كثيرا إذ حملت جاريته.. ويتغير الوضع إذا كان المولود ذكرا.. وتصبح الجارية زوجة وتمنح لقب هانم أو الوالدة باشا أو السلطانة الوالدة تبعا لمكانة الأب »ولي النعم«. وعندما غير إسماعيل نظام ولاية العرش ليجعله في أكبر أبنائه، اقتضي ذلك الكثير من الدسائس والمؤامرات لإبعاد محمد عبدالحليم بن محمد علي (حليم باشا) عن مصر، الذي كان الولي الطبيعي للعهد، وشراء أملاكه بثمن بخس.. ثم غُير عام 3781م نظام ولاية العرش بعد أن قدم إسماعيل الرشي للسلطان ورجاله، فتحول الحكم إلي ولده توفيق بعد عزل إسماعيل عام 9781م.. ولم يطبق نظام الوراثة الذي صدر عام 3781م بعد وفاة توفيق إلا علي والده عباس حلمي الثاني (1981 4191). وتعالوا نبدأ الحكاية من البداية.. فقد حرص إسماعيل علي أن يسافر أبناؤه الذكور جميعا إلي أوروبا لإتمام دراستهم ماعدا توفيق الذي تلقي آداب اللغة العربية واللغة الفرنسية في البلاط الملكي.. واستشعر توفيق منذ صغره تفرقة واضحة من قبل والده تفصله عن بقية إخوته الذكور وجميعهم غير أشقاء.. كان إسماعيل أيضا علي يقين من أن توفيق أقل أبنائه ذكاء وأضعفهم قدرة.. ويكفي أن ينشأ توفيق في هذا المناخ لكي تتسم شخصيته بالضعف وعدم الثقة بالنفس وافتقاد العطف الأبوي.. وقد روي بنفسه جانبا من علاقته بأبيه للمستر »باتلر« أستاذ ولديه »عباس حلمي ومحمد علي« قائلا: »كان والدي يسيء الظن بي ويسئيء معاملتي إلي درجة أن أحد وزرائه ، ولم يكن أرفعهم شأنا، تطاول عليَّ ذات يوم إلي حد امتهاني وتهديدي بأن والدي قد يبعث بي إلي السودان إن لم يجد مني إقبالا علي مساعدته الرامية إلي توسيع نطاق المدنية الغربية في البلاد فأجبته أن الخديو أبي وولي نعمتي فإن شاء فله أن يبعث بي حيثما يريد ولو إلي أقاصي السودان، وكان بعض أهل البلاط يعتقدون أن تلك المعاملة التي كنت ألقاها من والدي جعلتني أتمني أن تسرع الأيام نحوي بالعرش.. وعرض عليَّ وزير آخر من وزراء أبي وكان أقربهم إلي قلبه (إسماعيل المفتش غالبا) بكتابات من أجل إغراق أبي في ميناء الاسكندرية لدي عودته من الأستانة فأبيت باشمئزاز وأطلعت والدي فيما بعد علي تلك الكتابات فعانقني طويلا والدموع تملأ عينيه وقال: »لقد خدعت فيك ياابني واعتقدت أنك تتآمر عليَّ فاصفح عما مضي«!! وذهب الماضي الذي لايمكن إصلاحه تحول موقف توفيق في شبابه المبكر انحاز توفيق إلي الوطنيين المناهضين لسياسة إسماعيل القائمة علي الاستدانة.. وانخرط في المحفل الماسوني واتصل بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وأحمد عرابي وإبراهيم اللقاني.. وكان علي علم تام باتجاهات الرأي العام في مصر، وكانت نظرته لإسماعيل في تلك الفترة أقرب ماتكون من نظرة مواطن عادي وليس وليا للعهد.. وفي يونيو 9781م ودع إسماعيل وعانقه طويلا بعد قرار عزله وبعدها أصبح الخديو توفيق الذي يحكم الإمبراطورية المصرية الأفريقية التي اتسعت بها حدود مصر من وادي حلفا شمالا حتي خط الاستواء جنوبا ومن مصوع علي البحر الأحمر شرقا إلي حدود دارفور غربا وهي مساحة تعادل ضعف مساحة ألمانيا وفرنسا مجتمعتين بالإضافة إلي دستور مؤجل وهو الذي اقترحه شريف باشا في آخر عهد إسماعيل، وتركة مثقلة بالديون تقدر ب69 مليون جنيه. كانت سياسة الباب العالي تقوم علي الابتزاز المعلن لإصدار الفرمانات وخاصة فرمانات الحكم.. ولم يصدر فرمان تثبيت ولاية توفيق وتأخر قرابة شهرين.. تم خلالهما التصريح والتلميح بإمكانية إسناد خديوية مصر إلي الأمير حليم أو الشبح الملثم الذي تلوح به تركيا وفرنسا في أوقات الأزمات.. وانتظر الباب العالي الأموال والهدايا التي كان يغدقها إسماعيل.. حتي يحصل علي الفرمانات.. ولكن دوام الحال من المحال فقد جفت الينابيع، ولم يتبق منها إلا جبال من الديون يصعب حملها.. فلجأ توفيق سريعا للاستعانة بإنجلترا وفرنسا طلبا لمعاونتهما في استصدار فرمان توليه الحكم.. وتثبيته.. وكان له ماأراد.. ومنذ تلك اللحظة تغير موقفه تماما إزاء الحركة الوطنية والحياة الدستورية التي تحمس لها في شبابه، وأصبح أداة طيعة في يد الإنجليز.. وظهر استبداده في مرحلة مبكرة من توليه الحكم،. حيث أقال حكومة شريف باشا (أكبر داعية للحكم الدستوري) ورفض مشروع الدستور كلية.. وتولي رئاسة الوزارة بنفسه فكانت ردة دستورية تخلصت منها البلاد في عهد إسماعيل بإقرار مبدأ »الملك يملك ولايحكم« واستمرت هذه الوزارة شهرا.. ولكن خلال هذا الشهر نجحت إنجلترا في عودة »المراقبة الثنائية« في وضع أسوأ، حيث اشترطت إنجلترا وفرنسا عدم فصل مراقبيها بصفة نهائية في أمور مصر المالية، دون الرجوع إلي حكومة البلدين.. فكانت هذه هذ أول خطوة في طريق الاستعمار السياسي حيث تأكد لدي الشعب أن توفيق يؤيد سياسة »الحكم المطلق« التي تتعارض مع مبادئ الحركة الوطنية ومطالبها الدستورية. أول حزب سياسي تشكلت وزارة رياض بعد إقالة وزارة توفيق باشا التي انحازت إلي الأجانب وألغت قانون »المقابلة« فأضرت بمصالح كبار الملاك والأعيان الذين ارتبكت أمورهم المالية نظرا لتدبيرهم أموال الضرائب المجمعة علي أراضيهم علي أن يعفوا من نصف الضرائب مستقبلا، وبذلك ضاعت أموالهم هباء وتنازلت حكومة رياض باشا أيضا عن حصة مصر في قناة السويس وهي تمثل 51٪ من صافي أرباح القناة مقابل 007 ألف جنيه استرليني لسداد ديون مصر.. وفي نفس العام 0881م تأسست لجنة إصلاح للتعليم أو بمعني أصح »تخريب« لعقود طويلة، فتم إنشاء مدرسة المعلمين العليا، وعن طريق »دانلوب« مسئول التعليم الانجليزي تم تحجيم عدد المتعلمين وصياغة عقولهم بالطريقة التي تضمن التراجع والتخلف مقارنة بالتعليم الأوروبي.. وأهم من ذلك تم القضاء علي البعثات التعليمية لأوروبا، فقد تأكدت إنجلترا أن اطلاع بعض المبعوثين علي المفاهيم الديمقراطية الحديثة بما يترتب عليها عن المطالبة بحياة نيابية ودستورية من شأنه أن يهدد مخططهم للسيطرة علي بلد يطمعون في استعماره. في ذلك الوقت عرفت مصر أول حزب سياسي في صورة تنظيم سري وهو »الحزب الوطني الحر« الذي كان يناضل ديكتاتورية رياض باشا.. ومن أهم مؤسسيه إسماعيل باشا راغب وعمر لطفي باشا وسلطان باشا.. وكان جمال الدين الأفغاني أول من دعا للإصلاحات السياسية وإصدار الصحف التي تهاجم الفساد.. وفي عهد توفيق وأثناء توليه الوزارة تم إلقاء القبض علي جمال الدين الأفغاني بتهمة رئاسة جمعية سرية بهدف فساد الدنيا والدين!.. ونفي الأفغاني إلي الهند ثم انتقل إلي استانبول، حيث حدد السلطان عبدالحميد إقالته حتي وافته المنية عام 7981م .. وتم إيقاف عدد من الصحف، ونفي أديب إسحاق أيضا.. وفي نوفمبر 7981م أصدر الحزب الوطني أول بيان سياسي يطالب بتوحيد الديون في دين واحد، واستبدال المراقبة المالية الأجنبية بمراقبة وطنية، وإعادة الأملاك الخديوية الشاسعة إلي الحكومة المصرية.. وعجزت حكومة رياض عن تتبع هذا البيان الذي صدر من قادة الحزب، حيث تعدد اتجاهاته.. ومع سخونة الأجواء السياسية انخرط أحمد عرابي وعبدالعال حلمي وعلي فهمي »زعماء الثورة العرابية« في هذا التنظيم الذي ضم الأعيان والمشايخ والسياسيين والأتراك المتمصريين والعسكريين وأوساط الملاك والبسطاء.. وبهذا الاختلاف وعدم التجانس تميز هذا الحزب في بدايته بأنه »صوت الشعب« الذي اتحدت مطالبه في في إقامة حياة دستورية وبرلمانية تهدف إلي الحد من التدخل الأجنبي فكان هذا الحزب بحق هو النواة الصلبة للثورة العرابية التي اشترك فيها الأعيان ورجال الدين ودعمها بعض أمراء الأسرة العلوية وعائلات النواب، وقد اشترك من أسرة يكن وجدها ثلاث شخصيات هم: حسن باشا يكن وإسماعيل بك يكن وإبراهيم باشا يكن علي الرغم من مصاهرة توفيق لعائلتهم فقد كان صهرا لداوود باشا يكن،وقد عهد إليه بنظارة الحربية بدلا من البارودي.. أول صالون نسائي وأصدر جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده من باريس مجلة »العروة الوثقي« وكانت أول مجلة تنتقد أوضاع المسلمين وتخاذلهم وتطالب بالإصلاح الديني وتدعو لمقاومة الحكام في العالم الإسلامي الذين خانوا بلادهم ومكنوا منها الدول الاستعمارية، فكانت تدعو »للجامعة الإسلامية« لذلك لم تتردد تركيا في تدعيمها ولكن حين اختلفت أهدافها في عهود لاحقة تخلت عنها.. وفي عام 1881م صدرت جريدة »التنكيت والتبكيت« التي أصدرها عبدالله النديم »خطيب الثورة العرابية«.. وبعد الثورة تغير اسمها إلي »اللطائف«.. وكانت مهمتها التأكيد علي التسامح الديني ونفي تهمة التعصب الديني التي ألصقتها إنجلترا بالثورة العرابية وكذلك تأكيد مطالب الثورة العرابية ومنح توفيق لقب الخديو »الخائن المخلوع« فتم إغلاقها شهرا ثم عادت للصدور مرة أخري. وبحلول عام 1881م عاد الإمام محمد عبده إلي مصر عن طريق وساطة الأميرة نازلي فاضل بنت عم توفيق واللورد كرومر.. وعين مفتيا للديار المصرية، وكذلك عين عضوا بمجلس الشوري وأسند إليه رئاسة تحرير جريدة »الوقائع المصرية« وإدارة المطبوعات التي أنشأها عام 1881م بهدف الرقابة علي الصحف وتكميم أفواهها.. وفي هذا التوقيت عرفت مصر أول صالون نسائي من خلال الأميرة نازلي فاضل وهو الصالون الذي كان يضم في تناغم إصلاحي وثوري دعاة التنوير ورواد الإصلاح الاجتماعي والسياسي في مصر أمثال: محمد عبده وسعد زغلول وقاسم أمين واللورد كرومر أيضا..