الرئيس السادات يصافح الفريق حسن التهامى في هذه الحلقة الأخيرة من شهادة اللواء محمد نجيب، أول رئيس لمصر بعد ثورة 25 عن الثورة ورجالها يكشف جانبا من أكاذيب محمد حسنين هيكل تجاهه، حين ادعي أن اللواء محمد نجيب حصل علي ثلاثة ملايين دولار من المخابرات الأمريكية لبناء برج القاهرة.. وهو ما استفز اللواء نجيب وقرر رفع دعوي ضد هيكل أمام محكمة جنايات الجيزة.. وقال: أردت أن ألقن هيكل درسا علنيا يوجعه.. وإلي التفاصيل: أدركت للوهلة الأولي من قراءة هذه الرواية الباطلة أن الكذب لا أقدام له.. فأنا لم تكن لي صلة بهذا الموضوع لسبب بسيط هو أنني كنت معتقلا يوم وصل هذا المبلغ إلي مصر.. ولقد شرحت من قبل علاقتي بالأمريكان وعلاقة عبدالناصر بهم.. يضاف إلي ذلك مانشره رجل المخابرات الأمريكي الشهير »مايلز كوبلاند« في كتابه »لعبة الأمم« الذي قال فيه بصراحة إنه سلم المبلغ لرجل المخابرات المصري حسن التهامي، صديق عبدالناصر المقرب، وأحد الذين يعتمد عليهم في اتصالاته السرية، والذي اشترك معه في محاولة اغتيال حسين سري عامر واشترك معه في كل الاتصالات التي جرت بين الأمريكان والثورة. درس لهيكل وأردت أن ألقن هيكل درسا علنيا يوجعه.. رفعت دعوي ضده في نوفمبر 2791 أمام محكمة جنايات الجيزة.. وعرف هيكل بالدعوي.. وسارع بالاتصال بالمحامي الذي تولي رفع الدعوي وهو الاستاذ رفعت الشهاوي، وطلب منه أن يتوسط عندي لسحب الدعوي.. قلت: علي شرط أن ينشر بيانا في الأهرام والديلي تلجراف والنهار اللبنانية يعتذر فيه عما نشره ويكذبه.. ووافق هيكل.. ونشر البيان التالي: »كان الأهرام قد بدأ في 71 سبتمبر 1791 وعلي مدي عدة أسابيع في نشر فصول من الكتاب الذي صدر بعد ذلك لمحمد حسنين هيكل عن عبدالناصر والعالم، الذي ترجم أخيرا إلي اللغة العربية. وفي أول هذه الفصول وهو الخاص »بعبدالناصر ودالاس« ومحاولات الولاياتالمتحدة احتواء الثورة المصرية وغوايتها، ذكرت واقعة بناء برج القاهرة من حصيلة مبلغ ثلاثة ملايين دولار كانت المخابرات الأمريكية قد أرسلته ليوضع تحت تصرف رئيس الدولة في مصر وقتئذ.. وقد جاء في رواية هذه الواقعة في الكتاب المنشور أن هذا المبلغ كان قد وضع تحت تصرف اللواء محمد نجيب وأنه دُفع من الاعتمادات التي يخصصها الرئيس إيزنهاور لبعض رؤساء الدول ليتمكنوا من تجاوز مخصصاتهم المقيدة بالميزانية من أجل الدفاع عن أنفسهم وعن بلادهم ضد الشيوعية.. وبقدر حرص »الأهرام« والأستاذ محمد حسنين هيكل علي رواية التاريخ المعززة بالوثائق والأسانيد، بقدر حرصه علي عدم المساس بكرامة الشخصيات التي تتعلق بها هذه الوقائع.. وقد جاءنا من اللواء محمد نجيب أنه لم يعلم عن هذه الواقعة في حينها، ولم يتم أي اتصال بشأنها. ويريد محمد حسنين هيكل أن يؤكد أن مانشر عن اللواء محمد نجيب في هذه الواقعة لم يقصد به المساس به وبالدور الوطني الذي لعبه في بداية الثورة، والذي يملك التاريخ وحده الحكم عليه.. فواضح من سياق الخبر أن الولاياتالمتحدة لم تضع هذا الاعتماد تحت تصرف اللواء محمد نجيب ولكنها وضعته تحت تصرف السلطة المصرية تنفيذا لسياستها حينذاك في محاولة احتواء الثورة المصرية.. وينشر »الأهرام« هذا الإيضاح دفعا لأي لبس وتأكيدا لمعني يحرص عليه وهو أنه فيما ينشره من وقائع التاريخ المعاصر يتوخي الحقيقة وصدق الاعتماد، كان ذلك في أهرام الجمعة 2 يونيو 2791. هيكل يلف ويدور وواضح من البيان أنه يكذب ولايكذب.. وصاحبه يلف ويدور كعادته.. وأصررت أن أذهب إلي محكمة جنايات الجيزة لأحضر المحاكمة بنفسي.. فقال لي المحامي: هذا لايجوز.. فيجب ألا تقف أمام قضاة كانوا يصدرون أحكامهم باسمك باعتبارك رئيس جمهورية. فقلت له: لا.. إن حضوري المحكمة ووقوفي أمام القضاء هو تعبير عن احترامي لهم.. ثم إنني أريد أن أخاطب الشعب المصري وأسجل كلمتي للتاريخ في سجلات العدالة المصرية التي حرمت منها سنوات طويلة.. لقد رويت هذه القصة من قبل.. وأحب أن أرويها مرة أخري، حتي يتعظ كل من يتصور نفسه قادرا علي تزوير التاريخ.. ففي المحكمة وأمام منصة القضاء قلت: وحيث الذي يعنيني في مقام هذه الدعوي هو أن يثبت في محضر الجلسة أن الواقعة موضوع الادعاء غير صحيحة علي الإطلاق وأنني لم أتقاض أي مبالغ تتصل بهذا الموضوع من قريب أو بعيد، فضلا عن أنني لم يصل إلي علمي أي شيء بأي صورة من الصور طيلة مدة رئاستي يتعلق بهذا الموضوع.. ويشرفني بهذه المناسبة أن يثبت في محضر الجلسة أنني أفخر بأنني رجل فقير لايملك من حطام هذه الدنيا شيئا، فلست أملك مالا أو عقارا، اللهم إلا بعض جنيهات أتقاضاها كمعاش شهري، ولم أكن طيلة حياتي من الباحثين عن المال أو الحريصين علي جمعه، وتشهد ملفات الدولة أنني عندما وليت أمر هذه الأمة رئيسا للجمهورية تنازلت عن نصف مرتبي للدولة. وأخيرا فإنني أرجو أن يكون واضحا من هذا البيان أنني لا أقصد الإساءة إلي أي إنسان أو التشهير بأي شخص ولكنني فقط أرجو أن تثبت هذه الحقائق للتاريخ تأكيدا لطهارة ذمتي ونقاء صفحتي حتي أورثها لأبنائي ولأبناء مصر الغالية بيضاء كما كانت دائما طيلة حياتي التي قدمتها ضابطا مقاتلا مازال جسده يحمل آثار الرصاص، وقائدا ثائرا محررا لبلاده من طغيان كان يجثم فوق صدرها ورئيسا شريفا أمينا أدي واجبه علي أشرف وأكمل صورة.. حمي الله وطني من غائلات الأعداء وحرره من عدوان المعتدين ليعود مرة أخري حرا عزيز الجانب. وتنازلت عن الدعوي. رفضت تعويضا ضخما ورفضت التعويض الضخم الذي كان يمكن أن أحصل عليه واعتبرت إدانة هيكل لنفسه أكبر تعويض لي، رغم أنني كما قلت، لا أملك سوي معاشي.. وقد كان معاشي في بداية اعتقالي 001 جنيه، رفع بعد ذلك إلي 002 جنيه.. وأمر الرئيس السادات بزيادته 001 جنيه أخري.. لكن أهم من زيادة معاشي.. الذي لم يكن يكفي مصاريف الحياة والعلاج قرار الرئيس السادات برفع القيود عني. فبعد أن انتهي عهد الإرهاب، قال لي السادات: أنت حُر طليق! ولم أصدق نفسي.. هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة.. هل أستطيع أن أتكلم في التليفون بلا تنصت.. هل أستطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب! لم أصدق ذلك بسهولة.. فالسجين في حاجة لبعض الوقت ليتعود علي سجنه، وفي حاجة لبعض الوقت ليعود إلي حريته.. وأنا لم أكن سجينا عاديا.. كنت سجينا يحصون أنفاسه.. ويتنصتون علي كلماته.. ويزرعون الميكرفونات والعدسات في حجرة معيشته.. وكنت أخشي أن أقترب من أحد حتي لا يختفي.. وأتحاشي زيارة الأهل والأصدقاء حتي لايتعكر صفو حياتهم.. وأبتعد عن الأماكن العامة حتي لايلتف الناس حولي، فيذهبون وراء الشمس.. لكن بعد فترة، وبالتدريج عدت إلي حريتي.. وعدت إلي الناس وعدت إلي الحياة العامة. وياليتني ماعدت.. فالناس جميعا كان في حلقها مرارة من الهزيمة والاحتلال.. وحديثهم كله شكوي وألم ويأس من طرد المحتل الإسرائيلي.. وبجانب هذه الأحاسيس كانت هناك أنات ضحايا الثورة.. الذين خرجوا من السجون والمعتقلات.. ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب.. وحتي الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطي والكلمات. جريمة الثورة وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة.. وعرفت ساعتها أي مستنقع ألقينا فيه الشعب المصري.. فقد حريته.. فقد كرامته.. فقد أرضه، وتضاعفت متاعبه.. المجاري طفحت.. المياه شحت.. الأزمات اشتعلت.. الأخلاق انعدمت.. والإنسان ضاع. أين الأهداف العظيمة التي نادت بها الثورة؟!.. أين كرامة الإنسان الذي قال له جمال عبدالناصر ارفع رأسك ياأخي؟!.. لقد قمنا بثورة.. فإذا بهم يحولونها إلي عورة!.. قمنا من أجل الناس.. فإذا بهم يعملون من أجل أنفسهم.. قمنا من أجل رفع مستوي المعيشة.. فإذا بهم يعملون علي خفض مستوي كرامة البشر.. وإذا كان الزمن لا يتوقف والشعوب لا تنتهي والمستقبل لا يعود للوراء، وإذا كان الشعب قد حرر بلاده وأرضه من اليهود، فإنه لا أمل في أن يسترد كل مافقده، ولا أمل في أن يتقدم، سوي بالديمقراطية.. الحرية قبل الخبز أحيانا.. الديمقراطية قبل العدالة الاجتماعية أحيانا.. وقد دفعت أنا ثمن هذه الكلمة الخالدة »الديمقراطية« ودفع الشعب ثمنها أيضا.. ولكنني الآن لا أستطيع أن أفعل المزيد.. فقد هدتني الشيخوخة وأقعدتني، وحاصرتني أمراضها، وأصبح عليَّ أن أنتظر لقاء ربي بين لحظة وأخري.. لكن الشعوب التي تعوض شيخوختها بشبابها وماضيها بمستقبلها، تملك الفرصة الذهبية في تغيير واقعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. ولا يبقي إلا أن أكرر ما أقوله دائما وأبدا.. »رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَي الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ«. انتهت شهادة اللواء محمد نجيب.