صعب أن تحصي عدد المرات التي تعاملت فيها السينما العالمية مع رواية آنا كارنينا للأديب الروسي ليو تولستوي، ولكن يمكن أن نتوقف هنا أمام أربع مرات منها ما قدمتها السينما الأمريكية في الثلاثينيات من القرن العشرين بطولة جريتا جاربو، والثانية بطولة فيفيان لي، والثالثة بطولة الفرنسية صوفي مارسو، أما الرابعة فتعرض الآن في أوروبا وبعض دور العرض بالقاهرة بطولة كيرانياتلي، وجود لو، ورغم أن كل المعالجات السابقة التزمت بأن تكون روسيا القيصرية هي مسرح الأحداث، إلا أن السينما المصرية كعادتها في أغلب الأحيان فرغت العمل الروائي من محتواه، وأبعاده وقدمته في فيلم من إخراج عز الدين ذو الفقار تحت اسم نهر الحب، بطولة فاتن حمامة وعمر الشريف وزكي رستم، وقفز الزمن من القرن التاسع عشر، إلي الأربعينيات من القرن العشرين، وبالتحديد السنوات التي سبقت حرب 8491. وطبعا كان هذا التغيير الكبير في وقائع الرواية، كي يتناسب مع الصورة الذهنية لسيدة الشاشة، باعتبارها ملاكا لايخطئ ولا يأتيها الباطل من أمامها أو من خلفها، مع أن بطلة الرواية آنا كارنينا، هي زوجة صالحة وأم، ولكنها تفقد توازنها عندما تقع في الحب، الذي يصل إلي حالة من الهوس والعشق الذي يؤدي بها إلي السقوط السريع، فتتحول إلي عشيقة للكونت فيرونسكي وهو شاب من عائلة أرستقراطية، متحدية كل التقاليد والأعراف والتعاليم الدينية، والغريب أنها تجاهر بعلاقتها العاطفية وتصارح زوجها بالحقيقة، فيصفح عنها، مقابل أن تعود إلي صوابها، وتلتزم بما تفرضه عليها العلاقة الزوجية، مقابل أن تنعم بمميزات الزوجة الشريفة، ولكنها تخيّب ظنه، مرة أخري، ولاتستطيع أن تقاوم شغفها بحبيبها، ويصبح هدفها الوحيد هو الحصول علي الطلاق، ولكنها لاتناله رغم أنها تحمل طفلا من عشيقها، ويظل زوجها لديه الاستعداد للمغفرة والصفح، ولكنها تغادر قصره لتحيا مع عشيقها، انتظارا للطلاق، ولكنها تواجه بنفور وعداء من المجتمع الذي يحاصرها ويعاملها كبغي آثمة، بعد أن كانت زوجة مصونة، وعندما يشتد حولها الحصار وتدرك أنها فقدت كل شيء حتي شغف عشيقها بها، تقرر الانتحار تحت عجلات القطار الذي شهد بداية قصة حبها! المعالجة المصرية، بالغت في رسم شخصية الزوج "زكي رستم" بشكل منفر، حتي يكون هناك مبرر لخيانته، أو علي الأقل مبرر، لميل الزوجة لرجل آخر، في وسامة عمر الشريف، ثم استبعاد عنصر الخيانة الجسدية، والاكتفاء بمشاهد تصور العاشقين وهما »مقضينها فسح« في فلوكة علي النيل!! ومع ذلك فتركيبة الشخصية التي لم تقع في الإثم لايستقيم معها التفكير في الانتحار بل وتنفيذه فعلا!! إلا أن هذا المصير التعس يستقيم مع منطق الرواية وكل معالجاتها "باستثناء الفيلم المصري" حيث قدمت آنا كارنينا كسيدة تفقد اتزانها وتسقط جسديا مما يرهق روحها التي لاتطيق كل هذا العبء، وتدرك الخلاص لها، إلا بفرم هذا الجسد الآثم تحت عجلات القطار!! بمعني أن المقدمات المنطقية.. تؤدي إلي نهايات منطقية، لم يعبأ الفيلم المصري لها، ورغم ذلك يعتبره البعض واحدا من كلاسيكيات السينما المصرية، رغم كم الافتعال الذي يحتويه!! شاهدت فيلم آنا كارنينا الذي لعبت بطولته صوفي مارسو، من إخراج "بيربارد روز" الذي كتب أيضا سيناريو الفيلم، والتزم بأجواء الرواية وزمانها، وهو فيلم لابد أن يثير إعجابك بما يضمه من تفاصيل عن علاقات المجتمع الروسي الأرستقراطي المتآكل، وكم الزيف الذي يعتريه، ومفهوم الفضيلة في هذا المجتمع المتآكل! أما أحدث معالجة للرواية فتلك التي قدمها المخرج "جو رايت" joe wright ولعبت دور البطولة كيرانياتلي، وجود لو، والنجم البريطاني الشاب آرون تايلور جونسون، وهي المعالجة الأكثر روعة وابتكارا، وإذا كنت تتساءل وكثيرون معك، لماذا يقرر مخرج ما أن يقدم عملا روائيا سبق تقديمه علي شاشة السينما أكثر من مرة، فإليك الإجابة مع هذا الفيلم!! وفي اعتقادي الذي أحرص علي تأكيده المرة بعد الأخري ، أن الفيلم أي فيلم ليس الحدوتة فقط، بل كيف ترويها، مستخدما العناصر السينمائية، المختلفة! المخرج جون رايت، نقل الأحداث إلي خشبة المسرح، وخلق عالمين تربطهما الحكاية والشخصيات،التي تتحرك من خشبة المسرح إلي خارجها في امتزاج وسلاسة مذهلة وكأن الحياة كما وصفها يوسف وهبي ماهي إلا مسرح كبير، مشاهد ما كنت تتخيل أن تدور علي خشبه مسرح قدمها بروعة وإبداع يستحق الثناء، منها مشهد سباق الخيل، وهو المشهد الذي فضح شغف آنا كارنينا بمحبوبها، فبعد أن تعثر بجواده شهقت بصرخة مدوية، وكأن قلبها سوف ينخلع عليه، مما أحرج زوجها أمام هذا الحشد الضخم من الشخصيات التي تعتبر من صفوة المجتمع الروسي في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، تخيل عندما تتحول خشبة المسرح إلي مضمار أو تراك لسباق الخيل!! أو تتحول خشبة المسرح إلي محطة قطار، تعج بمئات البشر، أما قاعة الرقص التي شهدت أول تلامس جسدي بين آنا كارنينا والكونت الشاب فرونسكي، فقد حولها المخرج إلي قطعة من السماء يحلق فيها العاشقان، ويرتفعان إليها قبل أن يهبطا إلي جحيم الأرض وإغواء الجسد، يتوقف الزمن تماما أثناء الرقصة التي ضمتهما، وكأن البشر حولهما تماثيل لاتتحرك ولاتسمع ولاتري، هما الاثنان فقط في منتصف قاعة الرقص يتناجيان، في حالة من العشق يصعب السيطرة عليها، وكان لاختيار جود لو لشخصية الزوج الفاضل المتسامح "كرنين" أثره البالغ في التعبير عن قدرة المحب علي الصفح الدائم، حتي أنه لايجد غضاضة في رعاية الطفل الذي أنجبته زوجته من عشيقها! فيلم آنا كارنينا في نسخته الجديدة المذيلة بإمضاء المخرج "جو رايت" هو الأكثر إبداعا وطموحا، وقد اختار ممثلته المفضلة "كيرانايتلي" التي قدمت معه أفلام "التكفير " والعاطفة والكبرياء و"هانا" كما اختار الممثل الإنجليزي الشاب آرون تايلور جونسون بما يمثله من وسامة واضحة وصغر سن، يناسب جنوحه وجنونه العاطفي، وبالإضافة إلي الديكورات المسرحية والكواليس التي تسمح بحركة الممثلين، ودقة المونتاج، وبراعة التصوير والموسيقي والازياء والاكسسوارات، إنه فيلم يستحق المشاهدة ليس مرة واحدة ولكن مرات عديدة حتي تستطيع أن تدرك كل ما يحمله من روعة وجمال!