مر عام علي رحيل الكاتب الكبير أنيس منصور الذي قدم للمكتبة العربية ما يزيد علي مائتي كتاب في الفن والأدب والفلسفة وأدب الرحلات، وكان علامة بارزة في الصحافة المصرية والعربية. وقد عرفته عن قرب، وكان يبهرني فيه قدرته في توضيح أصعب الأفكار وجعلها في متناول القارئ العادي.. ورغم أنه كان يحب النكتة ويخترعها، مما يقرب المسافة بينه وبين الآخرين، إلا أنه كانت له أحزانه كبشر، والذي عبر عنها في كتابه (زي الفل).. حيث يتحدث عما كان يعانيه من هموم الحياة، وعدم فهم الأصدقاء له، ويضرب بذلك مثالا عندما كتب مقالا يتحدث فيه عن الشاعر الكبير صالح جودت الذي كان يعالج في لندن، وفهم الشاعر من مقال أنيس منصور، أنه ينعاه وهو علي قيد الحياة، وأرسل إليّ صالح جودت خطابا من لندن عن ضيقه وحزنه لما كتبه أنيس منصور، وعرضت الخطاب عليه، وحزن أنيس منصور لأن صالح جودت لم يفهم غرضه وقال: لقد نسوا تمنياتي، ولم يتذكروا إلا أنني أسبق الأحداث وأنعاهم وهم علي قيد الحياة، وقد كتب أنيس منصور هذه القصة في كتابه المشار إليه. وفي نفس الكتاب يتحدث في مقدمة الكتاب عن كبار الأدباء والمفكرين والساسة والفنانين، وهم يودعون الحياة فيعطي صورة بانورامية عن نظرة هؤلاء الذين عاشوا حياتهم وانطباعهم عن النهاية.. فالشاعر الألماني جيته التفت إلي الطبيب وأشار بيده: افتحوا النوافذ أريد مزيدا من النور. والعالم الكبير دارون قال: لعلك تري أنني لست خائفا وبرنارد شو قال للطبيب: أنت حريص علي أن تحتفظ بي حيا، مومياء لها قيمة تاريخية، فلا تتعب نفسك أنا انتهيت وسوف أموت. والمفكر العظيم كارليل أدار ظهره للطبيب وقال له: إن كان هذا وهو الموت.. فليكن.. والأديب الروسي تولستوي هرب من البيت ليموت بعيدا عن زوجته إلي إحدي محطات السكك الحديدية، وجاء الطبيب ونظر إليه تولستوي طويلا وقال: ليتني أعرف كيف يموت الفقراء! وعلي فراش الموت راح الفيلسوف الألماني هيجل يناقش الطبيب، ثم أدار ظهره للطبيب يستقبل الموت.. وقال: لم يكن هناك إلا إنسان واحد يفهمني حتي هذا لم يفهمني تماما! والأديب الفرنسي الكبير رابليه أمسك ورقا وقلما ولم يشأ أن يكتب شيئا وإنما التفت إلي الطبيب وقال له: يمكنك أن تسدل الستار، فقد انتهت المهزلة! ويردد أقوال نيوتن وأينشتين ونيرون، ثم يتحدث عن نفسه، وكيف أنه أراد أن يتحدث عن أحزانه ككاتب.. بعد ما قرأ ما قرأ من كتب، وما قام به من رحلات وما تعلمه من تجاربه في الحياة ويقول: ومن كل هذا الذي قال وقلت وقرأت، وسمعت وعايشت، وبكيت وحزنت صنعت نسيجا لقميص، إن لم يكن قميص يوسف عليه السلام فهو شبيه بذلك، ووضعته علي عيني، وعلي أنفي وعلي أذني، وأخرجت من أحد أكمامه قلمي، وكتب يقول الشاعر أبوفراس الحمداني (وقلبت أمري لا أري لي راحة).. إلا أن أكتب وجلست أكتب أحزان هذا الكاتب الذي هو أنيس منصور.. رحمه الله