لا يمس الأسي الأثرياء.. أصحاب الحظ الواسع في كل زمان ومكان.. فالآن مثلا، يأكل التقشف فقراء العالم من أهل الشرق والغرب.. في الصومال وبنجلاديش والهند ومصر والسودان وسوريا والعراق واليونان وأسبانيا وحتي أمريكا.. أما الفارق الجوهري بين تعساء الشرق والغرب فيتمثل في المظاهرات العارمة ضد التقشف في أسبانيا مثلا، وبين المظاهرات الفئوية عندنا في مصر، حيث تجد الأولي ردود فعل وآذانا صاغية من الاتحاد الأوروبي الذي لا يتجاهل غضب الشعوب، بينما لدينا تندلع وتنطفئ المظاهرات دون أن تحرك الدولة ساكنا.. ولننظر مثلا إلي اعتصامات الأطباء وغيرها. »ساعة البطون تتوه العقول«.. أتكلم الآن عن الاحتقان الشعبي المتفاقم ضد الجوع والفقر المستقر، وكيف تهدأ عاصفته عندما تظهر بوادر إطعام مجاني، سواء بالمال السياسي في الانتخابات أو عند منافذ توزيع اللحوم وكراتين التموين في الأعياد (عيد الفطر وعيد الأضحي) حيث يتحول الشعب المصري فيهما إلي جموع من الجياع المتقشفين إجباريا، الذين يفقدون حريتهم وإرادتهم بسبب فقدانهم للقوت، ويسيرون كالقطيع الأعمي خلف بطونهم.. انظروا كيف تكتلوا في عيد الأضحي الماضي للحصول علي لحوم الأضاحي في المنافذ الخيرية أو العشوائية، فبعض المانحين كانوا يقفون في المناطق العشوائية بسيارات محملة بأكياس اللحم فيكاد يتقاتل الناس الغلابة لجمع أكبر قدر من اللحوم التي لا يعرفون مذاقها سوي في هذا الموسم السنوي السخي. يكدحون ويعرقون في صراع مرير من أجل البقاء.. عرق بديل عن عرق العمل الغائب بسبب البطالة المتفشية منذ سنوات. هذه حالة مقاومة ضد التقشف الإجباري الذي دعانا إلي ربط الأحزمة علي البطون الخاوية، دون أن يمنحنا الأمل في فكها منذ أعوام مضت، وامتلأت بالنهب المنظم لثروات الوطن فأصبحنا الأدني في قائمة البشر الذين يعانون مثلنا. أما الأزمة المادية العالمية التي سبقنا الدنيا فيها بفقرنا العتيق الاستيطاني فقد أدت إلي أوضاع بائسة تشبه أوقات الحرب العالمية وما كانت تفرضه من نقص فادح في الأغذية والأدوية، وخراب فادح في كل مرافق الدول المنكوبة بالقصف والقتال، وبالتالي تعم حالة من التشرد الأليم حين تهدم المنازل بالقنابل فيسعي سكانها للبحث عن مأوي بديل.. هذا ما يحدث الآن في بلاد تعتصرها الأزمة المادية العالمية مثل أسبانيا وأمريكا، حيث فقد الناس بيوتهم بعد فقدان وظائفهم وموارد رزقهم وبالتالي أصبحوا غير قادرين علي دفع أقساطها فأجبرتهم الظروف الحالكة علي التشرد الذي نعرفه جيدا ونحيا في كنفه كشعوب آلفت التعاسة وكابدت الفقر.. هم في أمريكا الآن وكذلك في اليونان وأسبانيا يتسولون قوت يومهم ويؤاخون فقراءنا فيذوقوا عذابا كانوا يجهلونه.. أما نحن.. شعوب الثورات الربيعية العربية الزاهية، فمازلنا في هوة الفقر المتشعب بعد أن تركتنا الأنظمة الساقطة »علي البلاطة ميح«.. بلدانا »مخروبة«، منهوبة منكوبة بالفساد المتجذر والتقشف الذي لا يعرف الرحمة، فها هو الاقتراح المنبثق عن المجلس الأعلي للصحافة في مصر يجد تنفيذا استباقيا له في إحدي كبري المؤسسات الصحفية التي قامت بالاستغناء عن الكفاءات للذين تجاوزوا سن الستين، ويتبع ذلك حرمانهم من امتيازات كثيرة أهمها العلاج والدواء في مثل أعمارهم المتقدمة التي يكونون في أحلك الحاجة إليها، والقرار يهدف إلي خفض النفقات وفي ظاهره نوايا إرضاء الشباب بإفساح المجال لهم رغم أن العملة الجيدة تطرد الرديئة بين المسنين أو الشباب في أي مكان أو مجال وزمان لكن منطق التقشف التعسفي هذا سوف يكرس مقولة شريرة هي »أخذوهم لحم ورموهم عضم«. فالأساس في الأمور أن نعتني بالكبار ونكرمهم لأنهم أسهموا في البنية الثقافية والفكرية للشعب من خلال كتاباتهم الصحفية وتجربتهم الثرية لا أن نجازيهم شر جزاء بالإقصاء والنبذ والإماتة. ❊❊❊ »والله لأكون مبلغ عنكم النيابة«.. سمعت هذه الجملة القديمة الجميلة التي تهدد الشر والأشرار في فيلم قديم، وتحسرت علي ما آلت إليه الأحوال الآن.. فالبلطجة عنوان اللحظة الراهنة والحرامي يفقأ عينك ويقول »آي«.. والشرطة تستهزئ في معظم الأحوال بالشكاوي التي تقل عن جريمة قتل جماعية.. أما التحرش والنشل والسرقة، فلأصحابها رب اسمه الكريم.. وفي الفيلم المذكور كانت الخناقة علي مبلغ تافه اختلسه عبيط من أبله.. وعند ذكر النيابة انتفض العبيط و»اترعب« وأعاد المبلغ للأبله الذي اتضح أنه عارف الحل وهو الشرطة والنيابة.. من الأبله والعبيط نستلهم دولة القانون لأنها الحل الوحيد لإصلاح كل ما أفسده النظام السابق وتأسيس حياة سوية للشعب المتعب.