هل النقاش العاجل والمفيد لمصرفي اللحظة الراهنة يكون بتقييم أدب نجيب محفوظ ، أم العمل على ملأ بطون الجائعين، وتوفير فرص عمل للعاطلين ؟!. هل الأهم الآن إثارة جدل حول كون أدب محفوظ إباحيا أو عظيما، أم ال 1200 مصنع التي أغلقت أبوابها منذ 25 يناير؟. هل تظل ما تسمى بالنخبة تتعارك وتمزق ملابس وسمعة وعرض بعضها البعض بشأن قضية فكرية لا تحتل أولوية لدى شعب معظمه لا يقرأ حتى تكون بقية المصانع قد أغلقت أبوابها لتتفاقم الأزمة الاقتصادية، وكأن الثورة التي قامت لتحقيق العدالة الاجتماعية، والعيش الكريم للإنسان المصري قد جاءت وبالا عليه؟. لا أقلل من إبداع أديب نوبل، ولا أنا بصدد تقييمه ، لكني مشغول أكثر بقضية الاقتصاد، وخصوصا المصانع التي أقفلت أبوابها وتشرد عمالها ، ولا أريد أن أحصي عدد هؤلاء العمال ومن يعولونهم، لكن المؤكد أنهم ألوف مؤلفة وجدوا أنفسهم الآن في ضائقة مادية قد تطول، ووجدوا أن باب الأمل في الحياة والتخطيط للمستقبل قد أغلق في وجوههم . ومشكلة هؤلاء معقدة لأن تدبير فرص عمل بديلة لهم قد يكون غاية في الصعوبة، فالمصانع التي لم تغلق أبوابها بعد تعاني نفس الأزمات ، وقد يكون بعضها لحظة كتابة هذه السطور يتعثر ويفكر في الإغلاق، أي أن مزيدا من المصريين سيتعطلون وسيفقدون أسباب الحياة . بالتوازي مع كارثة إغلاق المصانع، فان الاستثمار الخارجي متوقف، فمن ذا الذي يمكن أن يأتي الآن ليلقي بأمواله في التراب أي يقيم ويبني المشروعات ويشغل العاطلين. كم مصري مشغول الآن بكون أدب نجيب محفوظ أخلاقيا أم إباحيا ، بل كم مصري يشتري رواياته، أو يقرأها ؟،وبالمقابل كم مصري مهتم بتدبير ثلاث وجبات على الأقل في اليوم له ولأولاده، بجانب مصاريف المدارس والجامعات والدروس الخصوصية، وفاتورة الكشف والعلاج ، وشراء كسوة الشتاء وإلى آخر ضروريات الحياة؟، بالطبع كفة المصري الغارق في شئون حياته أثقل من أي كفة أخرى مهما كان ما فيها ومن فيها. غذاء البطون في اللحظة الراهنة حالة أمن قومي ،واستقرار اجتماعي، أما غذاء العقول من ثقافة وفكر فلن يضر مصر وشعبها كثيرا إذا تراجع خطوة .فالجائع لا يقرأ ولا يفكر ولا ينتظر منه أن يفعل ذلك حتى يشبع، والخائف لا يعمل ولا ينام . الخبز ضروري ، والفكر ضروري أيضا ، لكن في المجتمعات الفقيرة والجائعة والقلقة مثل مصر فإن الخبز يسبق أي شيء آخر . القضايا الأساسية للشعب المصري الحقيقي مغيبة في الإعلام، فالسادة الذين يظهرون في الفضائيات ويكتبون في الصحف لا يبدو عليهم أنهم يعانون، وواضح أنهم منعزلون عن المواطن المهمش الفقير لذلك هم في واد وهذا المواطن في واد آخر، لوكان الإحساس بمعاناة الناس موجودا ما كان الشحات أثار قضية لا لزوم لها، وما كان من ردوا عليه قد توسعوا وغالوا في الفحش وكيل الشتائم له ولمن سموهم الظلاميين المتخلفين. فتح النقاش للتفكير في حل أزمات الاقتصاد والسياحة وإغلاق المصانع والبطالة والتعليم والصحة ومياه الشرب النظيفة والصرف وطوابير أنابيب البوتاجاز أهم الآن من الحديث عن الخلاعة والدعارة والخمر والبكيني والأدب المتحلل من الاخلاق فهذا ترف فكري لا علاقة لمعظم المصريين ممن يكملون عشاءهم نوما به. أكثر ما يشغل الأمريكان الآن وهم لا يعانون الفقروالبؤس مثلنا ليست قضايا ثقافية بل هم مشغولون بقضايا البطالة والمساكن وعلاج آثار الأزمة الاقتصادية والرعاية الصحية، كما أن المحور الأساسي لحملة انتخابات الرئاسة في 2012 التي بدأت من الآن سيكون عن الاقتصاد. الأمر نفسه في اليونان وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال وكل بلدان الاتحاد الاوروبي فهي كلها دول ثرية رغم أزمتها المالية إلا أن جل اهتمامها هو الاقتصاد وإنقاذ اليورو ، أي أن الاطمئنان على مستوى العيش هو القضية التي تهتز لها الحكومات . لكن مصر الفقيرة الجائعة المريضة تبحث عن محفوظ لتخرجه من قبره وتحاسبه وتجلده بينما لا تبحث عن مصادر مياه الشرب الملوثة، ومواسير الصرف المتهالكة، والمستشفيات المتدهورة، والطرق المدمرة، والمدارس المنهارة لعلاجها. أليس ذلك من عجائب ومساخر ما يحدث من البعض الآن في مصر. [email protected]