صباح يوم الأربعاء تابعت مجبرة، منظر سيارات نصف النقل المكشوفة وهي تحمل العجول المذعورة البائسة وتدور بها في الشوارع تعرضها ليذبحها الأغنياء ضحية العيد.. وخراف منقادة قطعانا علي أقدامها، لكن المصير واحد، وهو الذبح علنا، لتسيل أنهار الدم الحار في شوارع القاهرة، يتلقفها الهواء الملوث ويوزعها بالتساوي علي الشعب المصري.. ويؤلمني أكثر مشهد ذل الفقراء المنتظرين علي الأرصفة بلهفة لاقتناص قطعة لحم صدقة من الأغنياء. وفي مساء نفس اليوم تأكدت أن كلنا معرضون للذبح في مصر.. عندما تلقيت اتصالا من طبيب داخل استقبال الطواريء بمستشفي قصر العيني الفرنساوي.. يستنجد بأي إعلامي علي الفضائيات لإعلان أنهم يتعرضون لهجوم جديد، وأن الشرطة غائبة وأن أمن المستشفي اختفي.. حاولت الاتصال بمكتب مدير أمن القاهرة اللواء أسامة الصغير، وبالفضائيات.. فلم يرد أحد، لكن الخبر وصل الفضائيات وأذيع.. وبعد ساعة اتصل بي الطبيب يؤكد أن البلطجية اقتحموا الاستقبال وحطموا غرف العمليات بأعمدة المحاليل وأنهم مسلحون بأسلحة بيضاء، وأن الأطباء والممرضين اختبأوا في الأدوار العليا، وأن الأمن لم يظهر.. استمرت المعركة من طرف واحد لمدة خمس ساعات، وانتهت بالتدمير وإلقاء قنابل المولوتوف علي المستشفي، وقرر المدير إغلاق الطوارئ من الثالثة حتي السابعة صباحا!! هذا المشهد يتكرر في جميع المستشفيات الجامعية والمجانية الحكومية قبل الثورة، ولكن بعد الثورة أصبح تكراره أسرع، كانت المستشفيات ليلا تتعرض للهجوم من مدمنين هدفهم الأدوية المخدرة، فأضيف إليهم مصابو ثورة وأدعياء من البلطجية يطالبون بحقهم في الإقامة المجانية في المستشفي هم وذووهم لحين شفائهم. والمستشفي لا يملك المكان ولا الإمكانيات الطبية أوالمادية التي تسمح باستقبالهم أساسا. كل مايملكه غرف عمليات قذرة تمرح فيها الحشرات والزواحف وأسرة عمليات تسكنها الميكروبات والفيروسات. ومخازن خالية من الأدوية وبنوك دم مفلسة، وطقم أطباء يستقبل عشرات الحالات الحرجة، ويتعامل معها وهو يعلم أن مصيرها المشرحة.. فالمصاب يخرج من العملية ويسلم لأهله حتي قبل الإفاقة، هذا إذا وجد بنجا لتخديره في العملية أصلا. فلا مكان في الطوارئ لإفاقة أو متابعة ..كأن المستشفي ساحة حرب قبلية في الصحراء. وتيقنت أننا كشعب، فيما عدا شعب حزب الحرية والعدالة، كلنا معرضون للذبح عندما أعلن الرئيس المنتخب محمد مرسي في العيد، أنه يحتاج إلي عشر سنوات لإزالة الفساد الذي ضرب في جذور الوطن، المائة يوم المبشرة بالجنة امتدت إلي عشر سنوات!! الله يسامحك يادكتور مرسي. وبعد مشاهد الذبح السابقة، رأيت بخيالي مشهدا عظيما. رأيت مرضي المجاني يتحررون من الأسرة القذرة، والغرف السوداء والهواء الملوث، يحملون عاهاتهم وبقاياهم ويزحفون إلي حيث يجتمع الأطباء الأبطال الذين أعلنوا الإضراب منذ حوالي شهر.. وانضموا إليهم يطالبون بتأمين المستشفيات. وبحق المواطن المصري في العلاج الآدمي الإنساني داخل وطنه ومقابل ما يدفعه من ضرائب تستقطع من دمه ولحمه وقوته الحاف الجاف. المرضي دبت فيهم آخر نبضات المقاومة. وجوههم الصفراء التي ودعت الحياة يوم دخلت مستشفيات وزارة الصحة والجامعة ترتجف غضبا، أجسادهم الممصوصة تنتفض، توحدت هتافات الأطباء مع المرضي لأن الكل ضحايا.. ضحايا فساد الذمم التي تسرق ميزانية علاجهم سرقة منظمة ممنهجة منذ سنوات.. وضحايا وعود الدولة بوهم الإصلاح ثم إحباطهم بإعلان العجز والفشل.. المرضي يهتفون مطالبين بكادر الأطباء.. والأطباء يطالبون بتطهير منظومة الصحة وحق المرضي في العلاج الآدمي والرعاية الصحية والوقاية والتوعية.. هتافاتهم تعلو.. ترج الأرض.. وترجف قلوب اللصوص، والمتاجرين سياسيا ودينيا بآلامهم، وتجار المرض والعذاب.. ورأيت الجموع تتضاعف.. المشهد مخيف. الصوت هادر.. الفساد ينكشف والفاسدون يتساقطون.. ورأيت الشمس تبزغ.. ضوؤها قوي.. يخترق جدران المستشفيات المجانية.. يطهرها وينقيها.. الضوء ينتشر كالبرق.. يزيل الأوساخ والأوجاع من النفوس.. غرف العمليات معقمة نظيفة مجهزة.. الأطباء وجوههم أشرقت وأجسادهم استعادت حماسها وعافيتها للتضحية لإنقاذ الجريح ومداواته كما أقسموا أمام الله والوطن.. قلوب الممرضات عادت رحيمة.. وعادت المستشفيات مبرات وديارا للاستشفاء.. وعادت مصر وطنا لكل المصريين. المشهد عظيم، وقادم.. فلن يقبل المرضي ولا الأطباء ولا المصريون المزيد من الوعود، ولا خداع المطالبة بالصبر لحين ترتيب أمور الدولة وكشف الفساد.. الفساد واضح والعلاج معروف.. والمطلوب من الرئيس قرارات سريعة باترة فورية التنفيذ.. أولها عودة الأمن للمستشفيات والشوارع بنفس فاعلية تأمين الرئيس والحكومة، وإعلان تفاصيل ميزانية العلاج في وزارتي الصحة والتعليم العالي.. وعزل اللصوص المعروفين للجهات الرقابية وللمستشفيات.. ومضاعفة ميزانية الصحة فورا إلي 51٪ بدون وعود أو لجان دراسة.. الصحة والتعليم أولا وثانيا وثالثا ورابعا ياسيادة رئيس مصر الثورة المنتخب.. مستشفياتنا تحولت إلي سلخانات للقتل الجماعي للطبيب قبل المريض.. اسحب من ميزانية الوجاهة.. امنع سيارات المسئولين الفارهة.. خفض مصاريف المواكب والمكاتب وسفريات المجاملات والمناسبات.. اربط الحزام علي حكومة الثورة أولا. وطبعا اطلب من وزير الصحة الحالي الاستقالة لأنه عدي المائة يوم بفشل، ولأن الواقع لا يحتمل مزيدا من التجارب أو الاختبارات . وأن يحاسب وزير الداخلية علي فشل تأمين المستشفيات، وعلي غياب محاضر الأمن لكل مصاب فور دخوله أي مستشفي.