بلدي أحببتك يا بلدي.. رغم الجراح المؤلمة التي يسببها لنا بعض (المرتزقة) الذين يغنون ويتاجرون باسمك وماهم إلا للسلطة ساعون طامعون. رغم السفر والبعاد والتجوال مازلت أنت الوطن والبلد الذي أحن وأسكن إليه مهما كانت (عوراتك).. فللمدن (عورات) نخجل منها كما في الإنسان.. إلا أنه من الممكن (مداواتها) لو كان هناك تخطيط واع وحب وإيمان لهذا البلد. أحبك يا بلدي.. أرضك ونيلك وطينك.. وشعبك.. وأشهد بالغيرة عليك.. فأنت أم الحضارات ومهدها.. وأتمني وأنت الأم أن تكون كأحد الأبناء الذين تعلموا منك وكان (ناصرنا) زعيمنا دعما لهم ولثورتهم الحرة. في زيارتي الأخيرة والقصيرة جدا للجزائر بلد المليون ونصف المليون شهيد من أجل الحرية والاستقلال.. كانت الاحتفالات بمرور خمسين عاما علي الاستقلال.. صورة جميلة للمطربة الراحلة (وردة الجزائرية) تتصدر أروقة المطار وصالاته.. وفي هذا أكبر تعبير عن أن فترة القلق التي عانت منها الجزائر من الإرهاب وكان أول ضحاياها من الفنانين خاصة النساء والكتاب والأدباء.. قد تم السيطرة عليها إلي حد كبير.. وذلك بعد أن تمت المصالحة والمسامحة بين هذه التيارات التي بالتأكيد مازالت تعمل تحت الأرض والحكومة.. صورة (وردة) في مطار الجزائر أشعرتني بالفخر الشديد وأزالت من قلبي (غمة) شديدة أعاني منها بل نعاني منها جميعا من جراء الهجوم والتطاول علي فنانينا.. والتصريحات بعد ذلك التي تطلق من القنوات أشبه (بالإسهال) علي تجريم وتحريم الفن. (لتحيا) الجزائر حرة.. مستقلة.. لتحيا الجزائر بعيدا عن الإرهاب والفتن قلوب الجزائريين معنا فقد عرفوا من قبل معني تغلغل التيار الإسلامي في السياسة.. يتمنون ألا نخوض تجربتهم التي دفعت بخيرة أبناء البلد للرحيل عنه. بعد خمسين عاما من الاستقلال نجحت الجزائر في أن تستثمر مواردها في تطوير الحياة والخدمات العامة.. فالطرق التي تشق الجبال حيث إن معظم المنازل مقامة علي الجبال.. شديدة النعومة لاحفر ولا مطبات تفاجئك.. أتحدث عن تفصيلات نفتقدها هنا في بلدنا العاصمة القاهرة وفي شوارع رئيسية بها. في الجزائر.. ارتاحت عيناي كثيرا من التلوث البصري الذي نعاني منه من فوضي البناء في المحروسة التي فقدت شخصيتها تماما.. هنا في الجزائر المنازل كلها بيضاء.. والنوافذ زرقاء.. ناهيك عن (الغسيل) فهو (منشور) كله داخل (البلكونات).. وذلك علي حد سواء في أرقي الأحياء أو أفقرها (المترو) في الجزائر مكيف كما في الخط الأخير الذي تم بناؤه عندنا ولايعترف بكبار السن أو المعاقين والمرضي حيث لا سلالم كهربائية أو مصاعد.. نحن نعمل أفضل الأشياء ولكننا قادرون علي تشويهها.. لأننا لا نفكر سوي في اللحظة.. (القطارات) ومحطات السكك الحديدية نظافة فائقة أحسدهم عليها.. وأتمني أن نصاب منها بالعدوي فآخر مرة استقللت قطارا كان متجها للإسكندرية منذ شهر.. وأنا التي أقول عن نفسي إني (نفسي حلوة) ولا أتذمر بسهولة كدت أصاب بالقيء الشديد نتيجة (القذارة) في القطار السريع المكيف.. الذي كان يوما ما شديد النظافة. في زيارتي الأخيرة للجزائر التي صادفت بعدها زيارة رئيس الوزراء وقرأت أخبارها أن الجزائر سوف تدعمنا بالغاز وإلخ.. تذكرت موقفهم من قبل أثناء حرب أكتوبر فالأشقاء لم يبخلوا بالدم للمشاركة في حرب أكتوبر ولا بالبترول.. ولذلك (لعنت) الكورة واليوم الأسود الذي أصاب البلدين بالجراح نتيجة التعصب وجهل البعض واستغلال البعض الآخر.. والحمدلله آثاره بدأت في الذوبان أو النسيان وأدرك الجميع جنون الكرة كفانا الله شرها.. في الأيام السينمائية بالجزائر في دورتها الثالثة.
الثورة الجزائرية .. أبطالها.. رموزها.. جبهة التحرير.. المقاومة.. في احتفالية عامة علي مرور خمسين عاما.. كان لابد من تذكر أبطالها.. وكم كان جميلا أن التقي بواحد من هؤلاء الأبطال.. البطل الحقيقي للفيلم التسجيلي (فدائي) للمخرج الشاب (داجبان أونوري) الذي قدم في فيلمه حكاية (جده) (الهادي) الذي لم يروها لأحد.. الهادي اليوم في السبعين من العمر رجل هادئ طيب الملامح من يراه لايعتقد أبدا أنه في شبابه في فترة العشرينات وقبلها كان يقاتل بضرواة في الجبال.. ويسعي وراء أعداء بلاده المستغلين لخيراتها.. الهادي هو صورة صادقة لمعظم شعب الجزائر. عندما تحدث الهادي في ختام المهرجان.. كان يشعر بالخجل ولا يجد كلمات يقولها.. فقد كان يري دوما أن مافعله هو واجب عليه وعلي أبناء بلده وأن المقاومة شيء طبيعي وليس (بطولة) يتم الإعلان عنها.. إن هناك صفحات مطوية لأشخاص مجهولين مثل الهادي تماما أصحابها ساهموا وشاركوا في صناعة التاريخ بنجاحهم في الحصول علي الاستقلال.. لايعرف حتي أبناؤهم شيئا عنها. لذلك فإن الهادي (الفدائي) هو تكريم لكل جزائري في كل بيت يعيش فيه بتواضع شديد دون أن يعلن عن بطولاته وتاريخ حياته.
وأخيرا لابد من تحية خاصة للناقد الكبير (سليم عقار) رئيس الليالي السينمائية وجمعية (لنا الشاشة). (أحمد زابانا).. أول مناضل جزائري يتم إعدامه بالمقصلة في الخامس عشر من فبراير عام 1956.. لتبدأ بعدها بستة أشهر المقاومة وحرب التحرير، التي انتهت بالاستقلال. أحمد زابانا كان في الثلاثين من عمره.. ووقفت قوات الاحتلال كلها ضده ولم تفلح محاولات محاميه بإثنائهم عن جرمهم رغم أن (المقصلة) توقفت ثلاث مرات بسبب عطل طارئ حدث بها.. وكان هذا يستلزم أن يتم توقيف حكم الإعدام.. لكن منذ متي كان للمستعمر الغاشم الظالم (منطق) أو أخلاقيات. وتوالت الإعدامات بالمقصلة.. ففي عام 7591 تم إعدام أول أوروبي أو بمعني أدق (فرنسي) يعمل بجوار المقاومة وهو (فريناند أيفتون).. وفي ال52 من أكتوبر عام 7591 ثم إعدام يامينا الشهيرة ب زليخة أول امرأة تعدم بالمقصلة ليشهد التاريخ أن في فبراير 56 إلي عام 62 تم إعدام (222) جزائريا بالمقصلة بعد محاكمات ظالمة لم يأخذوا فيها حقهم في الدفاع عن أنفسهم بالشكل اللائق. حكاية أحمد زابانا وإعدامه والظروف المحيطة به، استهوت المخرج القدير (سعيد ولد خليفة) وذلك منذ أكثر من ست سنوات فأخذ في البحث وجمع كافة المعلومات حيث لم يكن هناك شيء مكتوب أو موثق.. وقد استغرق ذلك منه أربع سنوات.. وبعد ذلك عامين في الكتابة قبل أن ينتهي من السيناريو ويخرج الفيلم إلي النور.. وقد حمل الفيلم نبض حركة التحرير الجزائرية وصورة الجزائر التي كانت تبحث عن الحرية والعدالة والكرامة.. وكيف أن المقاومة كانت تفعل أي شيء وكل شيء من أجل أن يتخلصوا من المستعمر الغاشم الذي استغل خير بلادهم حتي أنه اعتبرها إحدي ولاياته. وقد حكم علي أحمد زابانا بالإعدام مع أنه مناضل وتمت معاملته معاملة شديدة السوء.. وقد سعي المخرج إلي أن يوضح بشدة مدي الصمود والروح المعنوية العالية له ولجماعته قبل وبعد القبض عليهم.. وقبل وبعد الحكم عليهم أيضا. لقد ظل زابانا ثابتا علي موقفه لم ينهر ولم يحاول أن يظهر ضعفه أو خوفه ولو للحظة، مما أثار بشدة حفيظة المستعمر وكان يستفزهم بشدة هذا الصمود والكرامة وعزة النفس الشديدة. إن سيرة الأبطال هي خير زاد نحتاج إليه جميعا في مثل هذه الأيام العصيبة التي اختفي فيها تماما من حياتنا المثل الأعلي بكل صوره وأشكاله.. ولذلك فإن أهمية مثل هذه الأفلام شديدة.. والفيلم مرشح لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي عام 2013. إن تاريخنا العظيم في العالم العربي مليء بحكايات البطولات والمواقف النبيلة في الحياة هؤلاء الأشخاص حياتهم تصلح لأن تكون مادة درامية ثرية جديرة بأن تتحول إلي أفلام أو مسلسلات.. فمتي نهتم بتاريخنا ونقدره؟ وعودة مرة أخري للحديث عن الفيلم يقول مخرجه (سعيد ولد خليفة) إنه لايسعي إلي أن تقدم فرنسا اعتذارا عما حدث في تلك الفترة.. لكنه يأمل ويتمني أن يتم فتح الملفات من جديد وإعادة القضية.. والكشف للرأي العام عن موقف (ميتران).. والذي صوت في ذلك الوقت مع الإعدام والمحاكمة. ويضيف سعيد قائلا.. إن الفيلم يتناول بعض صفحات قليلة جدا من ملف القضية الذي يبلغ وزنه خمسة كيلوجرامات.. وهو بذلك يشعر بأنه نجح في أن يكشف للعالم خبايا وأسرار محاكمات غير عادلة علي الإطلاق. وقد يكون الفيلم سببا في إعادة التحقيقات وإعطاء الحقوق والتعويضات المناسبة لأصحابها أو للورثة كما حدث مع فيلم (بلديون) الجزائري لرشيد بوشارب الذي سيظل علامة في تاريخ السينما ليس الجزائرية فقط.. بل العالمية لأنه أجبر دولة عظمي علي إعادة النظر في حكاية الجنود الذين أتوا بالنصر ليس لفرنسا وحدها بل لأوروبا كلها.