كشفت في مقال الأسبوع الماضي كيف أن فيلم (خارج القانون) لرشيد بوشارب استخدم في الدقائق العشر الأولي لغتين سينمائيتين ووظفهما ببراعة. ثم لجأ بعد ذلك فنحن أمام فيلم يعي أهمية تعدد لغات السرد إلي لغة ثالثة هي لغة التتبع البطيء لما جري للأسرة بعد شتاتها. فالفيلم حقيقة هو فيلم الأخوة الثلاثة: مسعود، المسعود حقا كما يخبرنا اسمه لأنه نجا بحياته بأقل الخسائر والإصابات من الحرب الفيتنامية؛ وعبدالقادر المسمي بالطبع علي اسم المجاهد الأكبر عبدالقادر الجزائري والذي يجسد المقاوم الذي جعل قضية وطنه شاغله الأوحد، في زمن لم يعد فيه الوطن إلا مكانا للنهب والفساد؛ وسعيد الذي يكشف اسمه لمرارة المفارقة عن عمق التعاسة التي يعيشها، وتعيشها معه أسرته التي لم يتبق منها إلا أمه. لذلك كان طبيعيا أن تبدأ رحلة الفيلم بدراما المفارقة والتناقض مع سعيد هذا، وقد ضاقت به الحياة في الجزائر، وقرر أن يأخذ أمه ويهاجر إلي فرنسا برغم مقاومة الأم لفكرة الهجرة. ولكن ليس قبل أن ينتقم لأبيه من عمدة المشهد الافتتاحي. وليس قبل أن تزور الأم ابنها السجين وتوصيه بأن يكون صلبا لأنه يدافع عن حق. ومع انتقال سعيد وأمه إلي فرنسا، عام 1955، وإلي مدينة نانتر تحديدا، نتعرف علي الوجه الآخر لحياة الجزائريين في مدن الصفيح الفرنسية. وعلي قهر المستعمَر الاقتصادي الذي ينهض عليه الرفاه الفرنسي. حيث لاسبيل أمام الجزائري الذي يعيش في عشش الصفيح والخشب الفرنسية، إلا القنانة الجديدة في مصانع رينو، والتي كانت تشكل عصب الاقتصاد الفرنسي في الخمسينات. فقد بني الرفاه الفرنسي علي أكتاف جزائرية و بسواعد فيتنامية كما نعرف، من صناعة السيارات، إلي الطرق السريعة وسكك حديد القطارات فائقة السرعة. لكن سعيد يرفض ذلك ويفضل أن يظل خارجا علي القانون، وأن يعمل قوّادا أو بائعا للمخدرات علي أن يندرج تحت نير القانون الفرنسي الجائر. ويتتبع الفيلم مصائر الإخوة الثلاثة وتقاطعاتها، حيث يعود مسعود مصابا من فيتنام، ومع هذا تزوجه أمه وتفرح به، بينما يخرج عبدالقادر من السجن مسكونا بمشاهد إعدام زملائه بالمقصلة في سجن الدولة الفرنسي، كي يواصل جهاده. بينما يسعي سعيد للتحقق خارج القانون، في ملهاه الليلي أو عبر رهاناته علي الملاكمين الجزائريين. وتكشف لنا أحداث الفيلم التي تمتد حتي مشارف استقلال الجزائر عام 1962 عن الكثير من تناقضات المسيرة الجزائرية مع الاستعمار والتحرر منه معا. ليس فقط التناقض بين المجاهدين الذين يبذلون الدم رخصياً في ساحة القتال من أجل الوطن، وقياداتهم التي تستمتع برفاه الفنادق الفخمة في سويسرا، كاشفا لنا عن بذور التناقضات التي سوف تفت في مسيرة الثورة حتي تبلغ بها مشارف الدمار بعد عشرين عاما، ولكن أيضا لجوء فرنسا المقاومة إلي المعايير المزدوجة، عبر قصة الضابط الفرنسي الذي شارك في المقاومة، ويعمل الآن بكفاءة صارمة ضد المناضلين الجزائريين، ولا يستطيع أن يفهم تناقضات وضعه المأساوي، حيث يردد أصداء مقولات ألبير كامو المهترئة، حينما لم يستطع تأييد الثورة الجزائرية وحق الجزائريين في الحرية كما فعل جان بول سارتر، بأنه لايستطيع أن يتخلي عن أمه، أي فرنسا، حتي لو لم تكن علي حق. إن التناص المضمر في هذا الفيلم مستوي شيق وثري في حد ذاته. لكن وفي مواجهة هذا الكولونيل الفرنسي الذي سبق أن عمل معه مسعود في معركة ديان بيان فو الشهيرة، ثمة الفرنسية الشابة »هيلين« التي تعمل مع الثورة. وما أجمل تعليق الأم الجزائرية البسيطة بدهشة حينما اكتشفت ذلك، فقالت »رومية وبتخدم مع الثورة«! نعم إنها فرنسية تعمل مع الثورة، لكنها الاستثناء الذي يقتله كولونيل ديان بيان فو الذي تعميه معاييره المزدوجة، حيث يرديها صريعة في شوارع باريس، تماما كما سيكون مصير كل من مسعود وعبدالقادر قبل نهاية الفيلم. والواقع أن هذا الفيلم الجزائري الجميل لايقدم لنا درسا فنيا في تاريخ الثورة الجزائرية ومسيرتها التي تبدو الآن وسط الواقع الجزائري والعربي المترع بالفساد، نموذجا نائيا وبعيدا للتفاني في حب الوطن والذود عن حماه، بدلا من نهب ثرواته وقمع مواطنيه. ولكنه يقدم لنا أيضا نمطا مغايرا للفيلم الجميل الذي يولي عناية كبيرة لمحتوي الشكل وجماليات الصورة، وتعدد اللغات الفيلمية. حيث نجد أن جدل اللغات وتحاورها وتوازيها يثري الفيلم ويفتحه علي مستويات متعددة من الدلالات. وهو توازٍ في اللغة السينمائية يقابله توازٍ رمزي آخر في استخدام الابيض والأسود مقابل الألوان: الشريط الوثائقي مقابل الواقع الروائي، الحاضر مقابل الماضي. فأحد أبرز إنجازات هذا الفيلم، وهي كثيرة، هو تطويع لغة الماضي لمفردات الحاضر، بصورة يبدو معها الفيلم برغم إخلاصه لموضوعه، وإصراره علي أن يذكرنا بين الفينة والأخري بالتواريخ القديمة، هي قدرته علي الكشف عن أن هذا الماضي ينعكس بصورة تناقضية علي مرايا الحاضر، ويتجلي فيه.