ظلت مصر طوال عقود عديدة تحتل المرتبة المتقدمة في مصاف الدول المصنعة للرخام والجرانيت نظرا لامتلاكها أجود وأفضل أنواع الأحجار الجبلية في العالم وتعتبر منطقة شق التعبان هي القلعة الأولي في تلك الصناعة ولكن مؤخرا تعرضت تلك الصناعة إلي تهديدات عديدة أنذرت بتدهورها وتلاشيها تدريجيا من المحروسة ولعل أهمها غزو التنين الصيني لتلك الصناعة وإحلاله بني جنسه مكان العمالة المصرية.. كما أن أصابع الاتهام في موقعة الجمل أشارت إلي تورط عمال تلك المصانع بنقل قطع الرخام والجرانيت لميدان التحرير لإجهاض الثورة تحت إشراف نائب برلماني بالحزب الوطني المنحل عن دائرة البساتين والذي تكفل بشراء نقلات الأحجار بأمر مباشر من فتحي سرور رئيس مجلس الشعب السابق والخاضع حاليا للتحقيقات في قضايا فساد وعلي الرغم من تبرئة جميع المتهمين في موقعة الجمل قبل أسابيع إلا أن اسم نائب الوطني لم يرد أصلا في التحقيقات. »شق التعبان« وصناعة الرخام والجرانيت عالم غني بحكاياته وأسراره ومشكلاته أيضا وهو ما أغري »آخر ساعة« بالاقتراب من هذا العالم. ما أن تطأ قدماك أرض"شق التعبان"حتي يراودك تساؤل ملح عن سبب تسمية تلك المنطقة بهذا الاسم وحاولنا استيضاح سبب التسمية من أهالي المنطقة فجاءنا الجواب لأنه نظرا لشكلها علي الخريطة الجغرافية لمصر يشبه شق التعبان كما أنها كانت تضم بين جنباتها أشهر محاجر مصر لجبل المقطم وكانت تعيش الثعابين والعقارب في تلك المنطقة فأطلقت عليها هذه التسمية. وسكان تلك المنطقة يعيشون حياة قاسية فظروف الحياة الصعبة جعلتهم يرمون أنفسهم بين أحضان مصانع الموت الكائنة بينهم وهي"مصانع الرخام والجرانيت"المشهورة بتلك المنطقة فتلك المصانع تتسبب في موتهم ببطء فالبودرة السامة التي تخرج من تلك الصناعة تتسبب في إصابتهم بأمراض الربو والسرطان وغيرها من الأمراض الفتاكة دون أن يؤمن عليهم صحيا ولكن كل هذا يهون. فالكارثة من وجهة نظرهم هي الصينيون الذين جاءوا ليزاحموهم علي لقمة عيشهم ويغلقوا تلك المصانع ويسرحوا العمالة المصرية كل هذا يتم تحت سمع وبصر الحكومة التي لم يجدوا منها ناصرا ليتخوفوا من أن يتحول اسم المنطقة إلي شق التنين الصيني. مشكلات عديدة يواجهها هؤلاء العمال جعلتنا نفتح موضوع صناعة الرخام والجرانيت بمصر وضرورة مجابهة الأخطار المحدقة بالصناعة. شق التنين الصيني العمال بشق التعبان لايتعد أعمارهم الثلاثين ربيعا وأغلبهم جاء من قري الصعيد الجواني التي تعاني ضيقا في الحياة ليبحث عن لقمة العيش في القاهرة لم يعبأ بمخاطر العمل المختلفة داخل تلك المصانع وعدم وجود حتي تأمين صحي بسيط يضمن له العلاج الآدمي في حال إصابته فما باليد حيلة.. فهناك أكثر من ثمانية أفراد يقبعون داخل منزل طيني بسيط ينتظرون الجنيهات المعدودة التي سوف ترسل إليهم علي أحر من الجمر. أما عمالة الأطفال داخل عنابر الموت البطيء في تلك المصانع فحدث ولاحرج..فمعظمهم أتم عامه الخامس عشر بالكاد واختير ليتحمل مسئولية أسرة كاملة تركها والدها تقاسي متاعب الحياة وحدها ولينقل لقب "رب الأسرة" إلي هذا الطفل الكبير.. "فريد"واحد من هؤلاء الأطفال الذين يجسدون تلك المأساة الإنسانية، جاء إلينا ليتحدث عن متاعبه في تلك المهنة ووجهه يكسوه بقايا البودرة البيضاء السامة والتي تخرج عند تقطيع أحجارلتشوه معالم وجهه الطفولية وتحيله إلي كتلة بشرية صماء لاهم لها سوي إتقان العمل مخافة من تركه والتسول بعد ذلك... يقول فريد: بعد أن تركنا والدي بعد زواجه من امرأة أخري انقطعت أخباره عنا فكان حريا علي أن أبحث عن عمل مناسب لأنفق علي أسرتي الكبيرة والتي يصل عدد أفرادها إلي السبعة وعرض علي بعض أقاربي العمل في تلك المصانع والانتقال إلي المحروسة فوافقت علي الفور فلم يخطر علي بالي كل هذه المخاطرالصحية والأمنية وتمنيت العودة إلي أحضان والدتي ولكنها مشيئة الله.. وإذا كانت هذه هي معاناة الطفل فريد في مصانع الموت بشق الثعبان فمعاناة العاملين البالغين تختلف إلي حد ما. يقول محمد بيومي (عامل بأحد المصانع):جئت من محافظة أسيوط للعمل بهذا المصنع مع أبناء عمومتي بعد أن فشلت في الحصول علي عمل مناسب في بلدتنا ومنذ أن خطت قدماي إلي شق التعبان حتي هالني طبيعة العمل فساعات العمل تتراوح بين 15 و18 ساعة دون توقف كما أن اليومية لاتتناسب مطلقا مع مخاطر العمل التي نجابهها فاليومية تبدأ من الثلاثين جنيها للعامل الصغير وتصل إلي مائة للأسطي الكبير أو رئيس الوردية. وعن مخاطر العمل التي يلاقيها يقول بيومي: هناك مخاطر صحية صعبة وأمراض مزمنة نصاب بها جراء هذا العمل فالبودرة التي تخرج من تقطيع الأحجار هي بودرة شديدة السمومية تصيب الجهاز التنفسي بأمراض الربو وضيق التنفس ناهيك عن ارتفاع ضغط الدم وتصلب الشرايين وقد تؤدي في بعض الأحايين إلي الوفاة السريعة ناهيك عن إصابات العمل المختلفة والمعرض لها الكثير منا والكارثة أنه لايوجد تأمين صحي يضمن لنا علاجا آدميا أو حتي عقود عمل قانونية لنظل تحت رحمة صاحب العمل الذي قد يقرر طردنا في أي وقت يشاء علي الرغم من أن معظم تلك المصانع غير مرخصة فناك أكثر من 150 مصنع غير مرخص. ويلتقط صلاح سمير طرف الحديث فيقول: مشكلة كبري تواجه صناعة شق الثعبان.. ألا وهي غزو التنين الصيني إلي تلك المنطقة واستثماراته التي وصلت إلي مليارات الجنيهات فهناك أكثر من 80 مصنعا يديرها رجال أعمال صينيون يستأجرون المصانع المغلقة بأكثر من 70 ألف جنيه في العام الواحد ويجلبون معهم العمالة الصينية للعمل بهذه المصانع بعد تسريح العمالة المصرية. وأثناء حديثنا مع أحد العمال فوجئنا بإشارته إلي أن قطع الرخام والجرانيت التي استعملها الفلول لإجهاض ثورة يناير أثناء موقعة الجمل كان مصدرها شق التعبان وهناك رجال أعمال بعينهم ينتمون للحزب المنحل تولوا تلك المهمة واشتروا تلك القطع فكان حريا علينا أن نستوضح صحة تلك المعلومة فانتقلنا للحديث مع الحاج محمد يونس صاحب أحد تلك المصانع. حيث قال: لاأحد يعلم أهمية تلك القطع المتخلفة عن نشر الرخام والجرانيت فبعد تكسيرها يتم طحنها مرة أخري ويستخرج منها بودرة شديدة النعومة تسمي"مزايكو" أو يتم تصنيع البلاط منها. كما أن هناك أهمية أخري لايعلمها إلا فلول الحزب المنحل وهي أن نائبا برلمانيا بالحزب المنحل عن دائرة البساتين هو صاحب مبادرة نقل قطع الرخام إلي ميدان التحرير لإصابة المتظاهرين وإثنائهم عن استكمال الثورة. ويروي يونس قصة صعود هذا الشبح الخفي والذي لم يرد اسمه مطلقا في التحقيقات إلي القمة: جاء حشمت إلي القاهرة منذ أوائل الثمانينات من محافظة أسيوط ليبدأ رحلة صعوده كعامل خرسانة وقد تميز بحلاوة اللسان وخفة الدم أهلته لأن يدخل ويتربع في قلوب أصحاب العمل الذين وثقوا به وأهلوه للاختلاط بعلية القوم والقيام بأعمال خاصة لهم وقد كان إسماعيل الشاعر الذراع اليمني لوزير الداخلية المحبوس حاليا حبيب العادلي أحدهم واستطاع أن يخلب لبه ويشترك معه في العديد من الأعمال المشبوهة . ولم يتوقف طموح أبو حجر بالشاعر فقط بل بذل أقصي مافي وسعه لتوطيد العلاقة بالعادلي ونجح في هذا وأصبح من أغنياء منطقة البساتين المعدودين وبالطبع لابد من حماية تلك الثروة والنفوذ فأدرك أهمية الحصول علي سلطة ولتكن سلطة البرلمان والتي بمقتضاها ستمنح له حصانة تؤهله لمواصلة رحلة صعوده وبالفعل انضم إلي الحزب المنحل وفاز بالعضوية عن دائرة البساتين وقد استفاد أبو حجر من ذلك أقصي استفادة فقام بالاستيلاء علي مساحة 24 فدانا تابعة لأراضي وقف"الزيني"ليبني عليها عمارات مخالفة ولم يتم عرضها للبيع إلي الآن... ويورد صاحب مصنع الرخام قصة رخام موقعة الجمل:في ذلك اليوم شاهدنا عشرات العربات التي أتت إلي المنطقة لتشتري قطع الرخام وكسر الجرانيت وبسؤالنا عن صاحب تلك العربات علمنا أن صاحبها هو أبو حجر وقد تم توريد تلك القطع بأوامر من فتحي سرور إلي متظاهري الفلول لاستخدامها في شن الهجوم علي متظاهري الثورة وإحداث إصابات بهم إضافة إلي تأجير بعض البلطجية من تلك المنطقة أيضا لضرب الثوار وعلي الرغم من ذلك لم يتم إدراج اسمه في سير التحقيقات وفلت بجريمته هذه. ولم يكن حشمت وحده من صعدوا من القاع إلي القمة فهناك كثيرون كإمبراطور الرخام والجرانيت"مدحت سينا"والذي يمتلك معظم المصانع وهو المعني بإبرام صفقات التصدير إلي البلاد العربية والأوربية كما يرأس أيضا جمعية "العاملين بالرخام والجرانيت"وهذه الجمعية لاتقدم شيئا يذكر لحماية حقوق العاملين بتلك المهنة وكثير منا يجهل وجودها من الأساس. أما رجب السيسي أحد المقاولين في تلك المنطقة فتحدث عن مشكلة أخري أيضا وهي تنامي نفوذ البدو والعربان فقال:هؤلاء البدو لايقلون خطورة عن الغزو الصيني فمعظمهم بلطجية فمصانعنا أوقعها حظها العاثر لأن تكون قريبة من سجن طرة فيهرب العديد من المسجلين خطر ليتخفوا وسط العمال وقد يشهروا أسلحتهم في وجوههنا مما يجعلنا نطلب من البدو الحماية وهؤلاء ينتمون لقبيلة"الترابين"ويتقاضون إتاوات شهرية منا نظير تلك الحماية وقد وصل بهم الغرور والنفوذ للسيطرة علي الجبل وتفتيته وبيعه بالمتر الواحد للمستثمرين الأجانب وبلغ سعر المترالواحد 400 جنيه وهو سعر مبالغ فيه وكل تلك التعديات تتم في غياب دولة القانون. وفيما يتعلق برد المسئولين علي مشكلة الغزو الصيني لشق التعبان قال أحمد عبد الحميد رئيس شعبة الرخام والجرانيت باتحاد الصناعات: إن إهم مطالب صناع الرخام والجرانيت لإنقاذ الصناعة تفعيل القرار رقم رئيس الوزراء 1664 الخاص بتفضيل المنتج المحلي في المشروعات القوميه والحكومية. وأضاف إنه مطلوب كذلك فرض رسم صادر علي بلوكات الرخام للحد من تصديرها لتوفير لسد احتياجات المصانع المحلية، ذلك إلي جانب تشديد الرقابة لوقف ظاهرة استئجار الصينيين المصانع المحلية لإنتاج منتج ينافس المنتج المحلي.. الأمر الذي أدي إلي إغلاق ما يقارب 80٪ من مصانع الجرانيت بمنطقة شق الثعبان.