يأتي الزواج الثاني للملك فاروق ليمثل مغامرة أخري من مغامراته، وهو نفسه يعترف عقب تنازله عن العرش إنه خطف ناريمان.. فقد كانت مخطوبة وعلي مشارف إتمام الزواج عندما ذهبت مع خطيبها الأول زكي هاشم إلي أحمد نجيب الجواهرجي لاختيار خاتم الزواج، فرأي فيها المواصفات التي تجذب الملك، فاتصل به وخطط لرؤيته لها، وأعجب بها وقرر الزواج منها، مما ترتب عليه فسخ خطبتها، بعد أن كانت قد انتهت من طبع دعوات الخطبة وإرسالها إلي المدعوين وذلك يتفق مع مايترسب في أعماقه بشأن الاستحواذ علي ممتلكات الغير. ورغم أن فكرة الزواج في حد ذاتها لقيت الترحيب من البعض، علها تنقذه من الهاوية وتنشله من مستنقع الرذيلة، وبخاصة إذا جاء الزواج بولي للعهد، فإن طريقة الاختيار أسقطت تلك الميزة.. وناريمان تبلغ من العمر ست عشرة سنة ووحيدة أبويها، وهي إبنة حسين فهمي صادق سكرتير عام وزارة المواصلات.. ويذكر السفير البريطاني لحكومته أنه لم يكن يتمتع بسيرة حميدة، والفضل في حصوله علي الترقيات ووصوله لهذا المنصب يرجع لزوجته التي كانت علي علاقة وثيقة بإبراهيم دسوقي أباظة، وأن العروس ليست علي المستوي الاجتماعي العالي ووصفها أصحابه بأنها »بلدي«. وبمجرد أن وقعت عين فاروق عليها، أمر أحمد كامل بإحضار صورها المعروضة لدي واينبرج المصوراتي، وجمع كل مايتصل بها في مدرستها لرغبته في ألا تنشر الصحافة شيئا عنها، وأيضا من المحتمل أنه أراد التعرف علي مستواها. ومع نهاية عام 9491 أصبح مشروع الزواج الملكي معروفا للجميع، ولم يلق أي انعكاسات طيبة وإنما كان رد فعله سيئا، فيذكر السفير البريطاني للندن أن الأقوال الدائرة عنه يؤسف لها، وأنه أنقص من مكانة الملك أكثر مما هي عليه، ثم يعود ويبين أن وجهة نظر الطبقات العادية أن الذي يريد الزواج بفتاة كانت مخطوبة لشخص آخر يعد لصا، وأن المبادئ الإسلامية لاتقر مثل هذا العمل، وأن سلوك فاروق يُعد غير مهذب، ثم يضيف أن المصري الذي يريد الإبقاء علي حُسن سمعة بلده يجد أنه من المكروه أن يقوم الحاكم بالزواج من أسرة عائلتها ذات سمعة سيئة، وينتهي إلي أن الشعب يرحب بالزواج إذا كانت طريقته من ناحية والنسب من ناحية أخري يتناسبان مع مقام الملك. اعتراض الأمراء واستاء الأمراء وتزعمهم الأمير محمد علي والأمير يوسف كمال الدين ورغبوا في رفع عريضة للملك ليصارحوه بالحقيقة، وعندما أيقن موقفهم بعث حسن يوسف إلي ولي العهد يهدد بأنه لن يتواني عن تجريد الأمراء من ألقابهم، وأبدي الأمير محمد علي اقتراحه للسفير البريطاني أنه من الممكن أن يكون الزواج عرفيا، وبالتالي لاتصبح الزوجة ملكة ولا الأبن وليا للعهد.. وواضح أنه يسعي حتي لايفقد وراثته للعرش. ناريمان في أوروبا وانتهزت الصحافة الأجنبية هذا المناخ، وتأججت عداوتها لفاروق، وراحت تنشر عن مشروع الزواج، وتناولت شخصية العروس، سنها، أصلها، سبب ارتباطها برجل آخر.. ونفي فاروق ماذكرته تلك الصحافة عن أن الزواج سيتم بسرعة.. ويذكر كامبل أن سبب تأجيله للزواج هو تلك المشكلة التي كانت تؤرقه والخاصة بزواج أخته فتحية.. والواقع أنه رأي من الأوفق ألا يتم الزواج قبل سنة حتي تهدأ الزوبعة، وفي الوقت نفسه تسافر ناريمان إلي أوروبا ليتم تثقيفها وتدريبها وإعدادها لتكون ملكة مصر.. وغادرت القاهرة في 32 مايو 0591 علي إحدي الطائرات وهي سعيدة يصحبها عمها مصطفي صادق قائد الأسراب، وسافرت بجواز سفر دبلوماسي وباسم مستعار. وذهبت إلي سويسرا ثم انتقلت إلي روما، وأقامت لدي السفير المصري الذي قدمها للناس علي أنها ابنة أخته. وتكتب السفارة البريطانية في روما إلي لندن لتنقل لها تحركات ناريمان حيث تتسلم التقارير من عميلة قابلت الملكة المنتظرة، وسجلت كل انطباعاتها عنها والدروس التي تتلقاها وأنها ليست لها صلة بالمجتمع، وهواياتها المفضلة المشتريات وبخاصة المجوهرات، واختيرت لها وصيفة كانت وصيفة لملكة إيطاليا، وتبادلت الخطابات مع فاروق في أثناء هذه الفترة. خطوبة فاروق لناريمان وفي 11 فبراير 1591 احتفل فاروق رسميا بخطبته لناريمان.. ويسجل السفير البريطاني لبيدن أن إعلان الخطبة الرسمية أحدث إثارة للناس، وأن الآراء أصبحت مختلفة حول ناريمان فالبعض يقول إنها ذكية وهادئة وحسنة الخلق، والبعض الآخر يقول إنها لاشيء.. ويعلق ستيفنسون بأنه »إذا كانت نتيجة الزواج أن الملك سيصلح من طرقه، فذلك سيكون مفيدا بصفة عامة لمركزه في البلد، ومن ناحية أخري فإنه إذا استمر في ارتياد النوادي الليلية وصالات القمار العامة، فالعاقبة ستكون أسوأ مما لو كان بقي دون زواج«. وفي 6 مايو من العام نفسه عقد القران، وأقيمت احتفالات الزفاف الملكي.. وينقل السفير البريطاني الصورة لحكومته، ويذكر أنه برغم تخفيض أجور السكك الحديدية فإن »مابدر من الابتهاج كان قليلا جدا إذا قورن بزواجه الأول منذ أثنتي عشرة سنة وأنه كان هناك شعور عام عبر عنه بتستر في الصحافة المتطرفة التي تؤكد أن سعادة الملك والمصاريف التي صرفت تتعارض بقبح مع احتياج وفقر معظم الشعب المصري«. ويعود كريزول ليؤكد لإيدن أن هذا الزواج أثار أقوالا فاضحة وانتقادات مريرة عن التبذير للمباهاة بينما تعاني الطبقات العاملة الأمرين.. وبالفعل بلغت تكاليف الزفاف 38437 جنيها، وكانت العروس قد أحضرت معها ملابس من إيطاليا بلغت قيمتها 505.5 من الجنيهات.. أما ثوب الزفاف فتم صنعه في أربعة آلاف ساعة، وأعدته فرق من العاملات عملن ليلا ونهارا، واستهلك كثيرا من الخامات، ورصع بعشرة آلاف من الفصوص، وحيك بأسلاك الفضة، وتكلف صنع الطرحة في فينسيا ألف جنيه، ووضعت ناريمان عقدا من الماس يُعد من أندر حُلي العالم، هذا في وقت تعاني فيه مصر من الأزمات الاقتصادية. صفات الملكة الجديدة وبدا علي فاروق أنه سعيد مع عروسه، فعقب مراسم الزواج أقيم عشاء ملكي حضره أغاخان، ونقل مادار بينه وبين الملك لمسئول بريطاني، فذكر أن الملك كان مفتونا بملكته الجديدة، وأن الحديث انصب عليها وكيف أنه يُعدها لتشاركه الأعباء كما سجل الضيف انطباعاته عن ناريمان بأنها واثقة من نفسها، متحدثة بحيث أنها كانت تتكلم مع البيجوم كما لو كانت تعرفها منذ الطفولة، وأنها تجيد اللغات الفرنسية والانجليزية والإيطالية بالإضافة للعربية. واختلفت ناريمان عن فريدة، فالأخيرة متعالية وصاحبة كبرياء أما الملكة الجديدة فاتسمت بالليونة والسلاسة، وطبق فاروق طريقة المعاملة التي عامل بها زوجته الأولي علي زوجته الثانية فتحملتها.. ومما يذكر أن المجوهرات التي تحلت بها لم تكن ملكا لها وإنما تعود إلي الخزينة الملكية بعد انتهاء مناسبة الظهور بها.. وعندما رأت إصلاح البيت الذي تركه والدها لها وتوسيع حديقته، قُيدت المصاريف علي حسابها، كذلك كل دعوة تقوم بها وكل شيء تشتريه يخصم من مرتبها، ويسجل الباقي دينا عليها، ولعل الملك وجد في ذلك إحكام السيطرة عليها، ولكن ليس هذا معناه أن الملكة استسلمت له كلية، لأنها قامت بمحاولات كررت فيها موقفا لسابقتها وتعلق بالحاشية، فدوت في أذنه ضد كريم ثابت في وقت كان قد انحرف عنه بعض الشيء، وعندما وجدت بصيصا من الأمل أقدمت علي خطوة أخري بشأن أندراوس فلم توفق.. ولما كانت لا تتمتع بقوة الشخصية، فقد تقبلت الأوضاع علي ماهي عليه. وفي يوم رؤية هلال رمضان لعام 0731 هجرية (يونيو 1591) ودون أي اعتبار لهذا الشهر المبارك، أبحر فاروق مع زوجته علي اليخت »فخر البحار« لقضاء شهر العسل في أوروبا، وسبقته الحاشية المعتادة بالطائرة، وحرص علي أن تكون تحركاته غامضة، فقد اعتاد علي القيام بعمل تخطيطات مختلفة، وأخيرا يقرر مايراه في آخر لحظة.. ورسا اليخت علي تورمينا بصقلية وقضي فيها حوالي الأسبوع، ثم أبحر إلي كابري حيث أستأجر فندقا بأكمله، وراحت الصحافة الأجنبية تنشر من بين تحركاته أنه تناول الغداء في مكان ما.. ويذكر ستيفنسون للندن أن مايقوم به فاروق يدعو للعجب، إذ جرت العادة أن يكون له في هذا الشهر النشاط الديني، وعبر عن تلك الدهشة لأمين الملك الأول. مشاكل مع المصورين وانتقل الركب الملكي إلي الريڤيرا ثم إلي سويسرا، ولكن فاروق قطع الرحلة وعاد إلي ايطاليا بسبب فشل السلطات المحلية في حمايته من المصورين، فقد جرت حادثتان: الأولي في 8 يوليو عندما نجح مصور صحيفتي فرنسية ليبر وديلي تلجراف في التقاط صورة للملك وهو يركب قاربه الآلي، وفي أثناء التقاطه صورة ثانية أوقفه مخبر الشرطة وأصدر له تعليمات بمقابلة الملك في الفندق، واستطاع أحد رجال الحرس الملكي مصادرة آلة التصوير وإجراء محضر، ولكن المصور رفض التوقيع عليه وتمكن من سرقة الفيلم، وأعادته الشرطة.. أما الثانية فوقعت في اليوم التالي حينما أراد مصور صحيفته زيورخ برس التقاط صورة لفاروق، وتدخلت الشرطة مرة أخري واستولت علي الفيلم، وفي هذه المرة قامت الشرطة باتخاذ الإجراءات عن طريق سلطات الأقليم دون تدخل من الملك، في هذا الوقت الذي هاجمته فيه الصحافة السويسرية وانتقدت تصرفاته الشخصية مما أزم الموقف، فغادر سويسرا علي الفور.