أثناء توقيع معاهدة السلام من خلال نقوش أُكتشفت فيما تُعرف ب"نقوش سرابيت الخادم" يتضح لنا أنه لم يكن هناك اسم خاص لسيناء ولكن يشار إليها أحياناً بكلمة "بياوو" بمعني المناجم، وفي المصادر المصرية في عصر الدولة المصرية الحديثة أشير إلي سيناء باسم "خامتمفكات" وأحياناً "دو مفكات" أي مدرجات الفيروز، إلي أن حملت في النهاية اسم أرض القمر والفيروز الأرض المقدسة التي مر منها الأنبياء وشهدت أحداثا سماوية لتصبح منذ أقدم العصور البوابة الشرقية لمصر إلي أن جاء الاحتلال الإسرائيلي لينظر إليها دائماً علي أنها جزء من أرض الميعاد ووضعها علي قمة أولوياته العقائدية والسياسية، ولم تتخل إسرائيل عن حلمها هذا أبداً، ففي عام 1956 وقع العدوان الثلاثي علي مصر واحتلت إسرائيل سيناء بالكامل لكن صدر قرار من مجلس الأمن آنذاك برد جميع الأراضي المحتلة إلي مصر وعدم شرعية الهجوم عليها، وفي يونيو 1967 عادت إسرائيل لاحتلال سيناء والجولان والضفة الغربية، ولم يكن أمام مصر سوي استرداد جزء عزيز من أرضها فانهكت إسرائيل في حرب الاستنزاف حتي خاضت حرب تحرير سيناء في1973. وبدأت مرحلة سياسية جديدة لعبت فيها الدبلوماسية دوراً مهماً في توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل في 26 مارس 1979 لتنسحب إسرائيل من سيناء تماماً في 25 أبريل 1982 مع احتفاظها بالشريط الحدودي المعروف ب"طابا" والذي نجحت مصر في استرداده بطريقة سلمية بحكم من محكمة العدل الدولية. وهكذا انسحبت إسرائيل فعلياً من علي الأرض لكنها لم تتخل أبداً عن حلم سيناء فهي الأرض الموعودة لديهم المرتبطة بشرعية وجودهم في المنطقة، استغلت كل الظروف التي أتيحت لها في فترة حكم مبارك ليكون لها تواجد بشكل ما، فهي لا تريد لسيناء أن تستقر وأن تأمن وأن تنمو، لأن إسرائيل هي المستفيدة الأولي من حالة الفوضي التي تجتاح سيناء الآن وخاصة بعد قيام ثورة يناير، ففي الماضي كانت تعتمد علي مبارك كنزها الاستراتيجي في عدم الاهتمام بسيناء، أما بعد قيام الثورة شعرت بحالة من الهلع بمجرد المطالبة بتنمية سيناء وتعميرها وإدراك المصريين بخطورة إهمالها طيلة السنوات الماضية، فبدأنا نشاهد ونسمع في سيناء عن تفجير خط الغاز 14 مرة والمستفيد الوحيد من هذه التفجيرات هي إسرائيل التي تستغل هذه التفجيرات في الحصول علي الغاز مجاناً عقب كل تفجير يتم فيه إصلاح الخط، ولا يمكن أن نغفل الهجوم المتكرر عبر رجال ملثمين يقومون بمهاجمة الكمائن الأمنية وإطلاق النيران علي الضباط والجنود، فخلال شهر واحد تمت مهاجمة أكثر من عشرة كمائن للشرطة وأطلقوا النيران التي خلفت وراءها شهداء من الجنود والضباط، هذا غير ما قيل عن إطلاق صواريخ "جراد" من مطار مهجور في سيناء باتجاه إيلات، ومن المؤكد الآن وجود تنظيمات جهادية تكفيرية استقرت في سيناء في العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك، ومن هنا يتضح جلياً أن مثل هذه التنظيمات لم تكن وليدة الصدفة وإنما ظهرت نتيجة اهتمام الداخلية بأمن مبارك وعائلته وبقضية التوريث التي جعلها علي رأس أولوياته وبالتالي تغض الطرف عن رصد تنظيمات الملثمين في سيناء التي أشاعت الفوضي والرعب بعد الثورة والتي يؤكد المحللون والمتخصصون ظهور أصابع لإسرائيل داخل تلك التنظيمات تدفعها لتنفيذ مخططاتها التي تصب في النهاية لإحداث فوضي المستفيد الأول منها هو إسرائل وحدها، وهو ما أدركه مشايخ القبائل في سيناء وأعلنوا عن ضرورة تعديل اتفاقية كامب ديفيد وإعادة النظر فيها لعدم مواءمتها للأمن القومي بجانب إعادة ضبط المنظومة الأمنية في سيناء وجاء ذلك في مؤتمر جماهيري عقدته لجنة الدفاع والأمن القومي برئاسة اللواء عباس مخيمر، وطالبوا فيه أيضاً بضرورة القضاء علي البلطجة والإفراج عن المحكومين من أبناء سيناء قبل ثورة يناير. التحذيرات الأخيرة التي أطلقتها إسرائيل لرعاياها بضرورة خروجهم من سيناء لا تعد جديدة وإنما هي دائماً تردد عند أي احتفال قومي لسيناء خاصة أنه قبل هذا الإنذار الأخير تم خروج تصريحات لمسئول بالمخابرات الإسرائيلية علي شبكة سي إن إن بأنهم رصدوا عشر خلايا إرهابية في سيناء ونقلت نفس الشبكة أيضاً عن الجنرال أفاييف كوخافي رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية إنه تم إحباط مخططات لمنظمات إرهابية تكثف نشاطها في سيناء. ومن الطبيعي أن تطلق إسرائيل تلك التحذيرات قبل أيام من الاحتفال بعيد تحرير سيناء وهو أمر يؤكده اللواء علي حفظي الخبير العسكري ومحافظ سيناء الأسبق الذي له دراية كبيرة بأحوال سيناء ويرصد أنه قبل أي احتفال علي أرض سيناء تجتهد إسرائيل في خلق مناخ من التوتر لكي تضيع بهجة المناسبة، ولنتذكر أيضاً أن تفجيرات طابا منذ عدة سنوات حدثت قبل الاحتفال بعودة طابا إلي مصر، ويتزامن ذلك مع الحديث عن إعادة وتنمية سيناء وهو الأمر الذي يصيب إسرائيل بالقلق والتوتر فبكل تأكيد أن تنمية سيناء الآن لا تتفق مع مصالح إسرائيل وإنما يناسبها إشاعة مناخ الفوضي واستعادة الجماعات التكفيرية لنشاطها مجدداً. ويتذكر اللواء حفظي واقعة يدلل بها علي صحة ما يقوله حدثت أثناء توقيع اتفاقية استرداد طابا وكان شارون وقتها وزيراً للدفاع وسأل المسئول العسكري في لجنة المفاوضات "أنتم تسلمتم آخر شبر في سيناء.. فما خطتكم بعد ذلك؟" فرد عليه المسئول العسكري عن وجود خطط لتنمية سيناء، فكان رد شارون بإنه إذا حدث ذلك فإن إسرائيل لن تسمح بها! وهو بذلك كشف وبوضوح كيف يفكر الطرف الآخر وما هو شكل الصراع الحقيقي فهم يعلنون بوضوح شديد أن سيناء تمثل لديهم البعد العقائدي وهو جزء من كيانهم الديني والسياسي، ولأجل ذلك فإن إسرائيل ستستخدم كل أدواتها المتاحة لعرقلة تلك التنمية فمصالحها مرتبطة بذلك، وبخاصة أن السنوات الأخيرة شهدت تخبطاً في خطة تنمية سيناء ولم تكن هناك جهة محددة مسئولة عن تنفيذها وحدث بدلاً منها فوضي ومشاع في المسئولية. وإذا كانت التنمية في سيناء مرتبطة إلي هذا الحد بالجانب الأمني فكيف تراخت القبضة الأمنية هناك بما جعل الفرصة متاحة أمام التنظيمات الإرهابية للعبث بأمن سيناء وإعلانها عن نفسها بهذا الوضوح خاصة أن من يحكم قبضته علي سيناء من المفترض ألا يتأثر بأي أحداث تقع في القاهرة مثلاً، ويؤكد حفظي أن ظهور هذه الجماعات لم يأت مصادفة وإنما هو نتاج عشر سنوات من الأداء العشوائي غير المخطط الذي سمح بتكوين تلك الخلايا في سيناء والتي تتحرك بكل حرية بين شعابها، ولذا يجب أن تكون أجهزة الأمن التي تعمل علي أرض سيناء مؤهلة بشكل كامل من الناحية العلمية والتاريخية والاجتماعية نظراً لطبيعة المجتمع السيناوي الخاصة ويفضل الاعتماد علي ضباط سبق لهم الخدمة في سيناء في بداية عملهم ثم يذهبون إليها وهم كبار ولا مانع من إعداد دورات تدريبية لهم علي كيفية التعامل مع أهل سيناء. ووفق هذه المعادلة الصعبة فإن تنمية سيناء لابد ألا ترضي عنها إسرائيل لأنها بكل تأكيد لن تحقق مصلحتها فكيف سنصل إلي إنهاء الفوضي في سيناء وتعميرها؟ يري حفظي ضرورة أن تكون هناك رؤية استراتيجية وسياسية واقتصادية وأمنية واضحة لسيناء فهي ليست مجرد محافظة صحراوية في أرض مصر لكنها منطقة استراتيجية لها ارتباطات دولية وإقليمية وما يحدث فيها ليس مجرد مشاريع وإنما هي رؤية عامة، والتعامل مع سيناء لابد أن يبدأ بالسياسة وأن ينتهي أيضاً بالسياسة، ونعود هنا إلي العلم الذي يكشف لنا كيفية تحقيق المصالح، فالسياسة هي فن الممكن، فالمصالح إما أن تكون متوافقة وهو أمر نادر الحدوث أو متعارضة وهذا الغالب دائماً والمهارة السياسية هنا تكمن في تحويل المصالح المتضاربة إلي مصالح مشتركة. وبمجرد دوران عجلة التنمية المنظمة التي تم الإعداد لها الآن سيتم القضاء علي المشاكل التي تجتاح سيناء من وجود السلاح وشبكات التهريب عبر الأنفاق الحدودية مع إسرائيل والقضاء علي التنظيمات التكفيرية ومع أن العملية صعبة إلا أن التنظيم الجيد قادر علي القضاء علي كل مشاكل سيناء. وإذا كانت تلك هي الرؤية الاستراتيجية لما يحدث في سيناء فإن الأمر يتطلب أيضاً توضيحاً حول تواجد التنظيمات التكفيرية التي تهدد أمن سيناء من الخبير د.رفعت سيد أحمد مدير مركز دراسات يافا للدراسات والأبحاث الذي يؤكد أن تشكيلة قوي التنظيمات في سيناء يغلب عليها الطابع السلفي الجهادي التكفيري وهو ما يسمون به أنفسهم وجهاتهم مختلطا بهم الرؤية وأولويات القضايا فبعضهم له امتداد وتواصل مع تنظيم القاعدة الذي قد لا توجد لهم علاقة تنظيمية واضحة معه بمعني الانتماء المباشر للتنظيم لكنه انتماء في شكل اعتناق تيار فكري وسياسي وهم علي تواصل مع نفس من يعتنقون أفكار تنظيم القاعدة في فلسطين، ومعظم هؤلاء ينتمون إلي بعض أبناء القبائل في سيناء وأميل إلي وجود اختراقات إسرائيلية لمن يعتنقون هذه الأفكار وبخاصة أننا لا يمكن أن ننسي أن إسرائيل كانت محتلة سيناء لمدة تقارب الخمسة عشر عاماَ وبكل تأكيد استطاعت خلال هذه السنوات اختراق تلك المجموعات بشكل تخابري إما عن طريق المال أو النساء فسيناء شديدة الأهمية لإسرائيل وللموساد وعملت إسرائيل علي خلق حالة من التشويه للتنظيمات الجهادية المصرية والفلسطينية وخلطت الأوراق بينها وبين حماس والجهاد وتعمدت أن تقدم هذا الخلط حتي يسهل ابتلاع الطعم، وللأسف الشديد ليس لدينا حتي هذه اللحظة معلومات موثقة عن خريطة التنظيمات الجهادية التكفيرية داخل سيناء، فإسرائيل استغلت حالة التشويش لدي من يعتنقون فكر القاعدة والتكفير ودفعت بهم لارتكاب أفعال تضر بالأمن المصري نتيجة غياب الأولويات لديهم، فإسرائيل تاريخياً أحد أهم أدواتها في الدفاع عن نفسها هو فكر الاختراق، معتمدين في ذلك علي منفذين لا يدركون بشكل واضح بداية المؤامرة. ما سمعته من اللواء حفظي والدكتور رفعت أضاء الكثير من نقاط الغموض التي تحيط بالأحداث في سيناء، وأن ما يحدث بها الآن من فوضي أمنية ليست وليدة اليوم لكنها نتاج العشر سنوات الأخيرة من حكم مبارك، خاصة أن إسرائيل تعاملت مع سيناء طوال الوقت بوضوح شديد، بينما لم يستطع النظام البائد قراءة الأحداث في ظل انشغاله بقضية التوريث، مما جعله مسئولاً الآن عما يحدث في سيناء.