للكلمة قدسيتها.. فهي نور ونار لما لها من تأثير علي النفوس والعقول.. تضيء الحياة بالمعرفة.. وتحرقها بالأفكار الشيطانية التي تدمر البشرية والحياة.. ورغم ذلك فإن صورة واحدة معبرة لها القدرة علي محو تأثير مئات وآلاف من الكتب والمؤلفات.. صورة علي شاشة لا تستغرق سوي ثوانٍ أو دقائق لكن لها القدرة علي أن تظل محفورة في الأذهان.. تسترجعها الذاكرة وغالبا ماتشكلها .. ولأهمية الصورة كانت أهمية السينما.. فإننا نتعلق بمشاهد خالدة، البعض يجعلها دستورا وهدفا له في الحياة.. أو طريقا يسير علي خطاه أو ضده.. ولذلك تزداد أهمية الصورة فما بالك لو كانت مصحوبة بكلمات سواء كانت من نور أو من نار. بدون حجاب ثورة امرأة إيرانية لتبقي الصورة لحظة نسرقها من عمر الزمن الذي لايعود لكن نستطيع أن نسترجعها من خلال الذاكرة ولو حتي في الخيال. وسواء تتضاءل الخلافات أو تكثر من السياسة تجاه بعض الدول أو توجهاتها.. فإن السينما لغة الصورة تعرض نفسها علي كل التضاد.. بل وتعرض نفسها فوق كل الخلافات وأحيانا تستفيد منها السياسة حتي لو كانت في ثوب المعارض.
ولعل السينما الإيرانية نجحت في كسب احترام وإعجاب العالم.. وفرضت نفسها علي المهرجانات والمحافل الدولية السينمائية فكان في ازدهارها وإبداعها مايخفي عورات سياسة بلدها.. وفي أحيان أخري لفت الأنظار لكل الأحداث التي تمر بها البلاد وتعاني منه الشعوب.. وفي لحظة ذاتية للبحث عن المتعة تقفز إلي الذهن من الخيال صورة محفورة عن جمال الفكرة والقدرة من خلال الصورة الفيليمية تجعلها خالدة.. ولذلك من خلال الفيلم الإيراني القصير »الدور» إخراج »قرنوش صمدي» التي تخرجت في كلية الفنون الجميلة في روما، وعملت مساعدة كاتب مع »علي أصفاري» وقدمت للسينما فيلمين قصيرين.. »الصمت» أول أفلامها الذي عرض في »كان» و»غاز» الذي عرض في »لوكارنو» سنة 2017.
وقد استطاعت »قرنوش» في فيلمها »الدور» الذي لاتتجاوز مدته إحدي عشرة دقيقة أن تقدم صورة صادقة لتغيير نمط الحياة في إيران.. والحراك نحو الحرية والاستقلالية التي تسعي إليها المرأة في إيران.. وذلك بشكل بسيط وصورة صادقة معبرة لامرأة تصطحب ابنتها لترافق زوجها الذي يذهب لأداء دور تمثيلي.. وأثناء التجريب يُطلب منها أن تشارك الزوج تأدية الدور لتزيد من مصداقيته.. وبعد الانتهاء من تجربة الأداء.. تكتشف إنها هي التي نجحت وليس هو مما يثير جنونه ويعلنها برفضه التام لفكرة عملها بالتمثيل.. وعندما يتم النداء عليها يعطونها كارتا لزوجها ليبلغهم بموافقته بعملها معهم.. لكن بكل بساطة تقول للمسئول إنها هي التي ستأخذ الكارت وترد علي اتصالهم وتعلنهم بقرارها.. لينتهي الفيلم وهي تسير في عكس اتجاه سير زوجها.. وكأنها تحررت من عبوديةٍ وأسرٍ من خلال علاقة زوجية لم يكن من حقها فيها أن تقرر مصيرها مع أنه بيدها وحدها.. ووثيقة الزواج لاتعطي أحدا الحق في أن يلغي شخصيتها ويدفن طموحها وأحلامها..
وإذا كانت للصورة كل تلك الأهمية في ترسيخ فكرة في أذهان الناس فإن »صانع الصورة» يظل هو البطل الحقيقي وإن كانت الشهرة العريضة تذهب للممثل أو الممثلة.. وفي عالم الإخراج وعلي مدي سنوات طويلة من المتابعة للسينما العالمية ونجومها والعديد من اللقاءات مع مخرجي العالم تظل صورة عالقة في ذهني لمخرج متميز ظل حتي هذه اللحظة محتفظا بمبادئه شاهراً أدواته للتعريف بالإنسان البسيط في المجتمعات الفقيرة والأقل من المتوسطة.. فقد أخذ علي نفسه عهداً أن يدافع عن المهاجرين الذين عبروا البحار واستوطنوا أوطانا جديدة ويكافحون من أجل لقمة العيش ويناضلون من أجل حياة كريمة. إنه المخرج الفرنسي الأرمني الأصل »روبير جديجيان » ابن حي »إسناك» الذي يقع في شمال مدينة »مارسيليا» بفرنسا.. مارسيليا المدينة المفتوحة علي البحر للسفن الكبيرة ومراكب صيد الأسماك.. »جديجيان» بحكم نشأته في مارسيليا التي يعيش فيها حتي الآن عشق البحر.. وصيادي الأسماك.. وعمال الميناء.. وكل أفلامه تدور في هذا الفلك المتوسط للإنسان البسيط المطحون.. مارسيليا مدينة يجتمع فيها عدد كبير جدا من المهاجرين العرب وفي شمال إفريقيا وإسبانيا والبرتغال. في أول أفلامه وبالتحديد في الثامن والعشرين من يونيو سنة 1968 وقف »روبير جديجيان» الشاب البالغ من العمر 26 عاما.. أمام مقهي الميدان الذي يتصدي حي »الإسناك» ليقوم بتصوير أول مشاهد فيلمه »آخر صيف» وقد استعان بزوجته الفنانة »أريان إسكاريد» التي كان متزوجا بها منذ عدة أعوام لتقوم ببطولته أمام صديق طفولته منذ المدرسة الابتدائية وابن الحي الذي عاشا معا فيه »جيرار ميلان» الذي كان يمارس مهنة التمريض ولكنه أقنعه أن يقف أمام الكاميرا ليمثل مع باقي أبناء الشارع في أول بطولة سينمائية.. وليصبح منذ هذا اليوم مشاركا في جميع أفلامه مع الفنان دارو رسان». والمعروف عن »جديجيان» ميله لفريق العمل الذي يعمل معه منذ سنواته الأولي سواء من التقنيين أو الممثلين وحتي الكومبارس الذين اعتاد أن يستعين بهم من أبناء الحي الذي تربي فيه.. والذي عاش مخلصا لناسه البسطاء الذين ينتمي إليهم فوالده كان عاملا كهربائيا في الميناء. حياته البسيطة الفقيرة لم تمنعه من أن يلتحق بجامعة »إكس إن بروفانس» ويدرس علم الاجتماع الذي أفاده كثيرا في تحليلات أفلامه.. انتمي إلي تيارات اليسار.. لكنه وجد بعد ذلك في السينما خير تعبير عن آرائه ومعتقداته.
حياة »روبير جديجيان» لا تنفصل كثيرا عن حياته العامة.. فقد التقي بزوجته الفنانة الجميلة »أريان» في الجامعة وكانت طالبة متميزة ولها أنشطة سياسية.. ومنذ أول فيلم شاركت في بطولته معه.. كانت هي البطلة في جميع أفلامه ماعدا فيلمه »الزائر للشانزليزيه» عن حياة الرئيس »ميتران». وقد حصل جديجيان علي العديد من الجوائز في العديد من المهرجانات بالإضافة لصدور عدة كتب تحمل تجربته في الحياة وأفلام تسجيلية عنه. إن الصورة السينمائية تدين »لروبير جديجيان» بالكثير حيث قدم صورة المهاجر البسيط في الموانئ التي تطل علي المتوسط عشقه الذي لايوجد غيره لديه بديل.