رصد العالم النفسي الدكتور محمد المهدي (رئيس قسم الأمراض النفسية بجامعة الأزهر فرع دمياط) أحوال المصريين قبل ثورة 52 يناير، والعوامل التي ساهمت في قيامها، وحلل لحظات الانتصار والانكسار، ثم وصف المشهد الحضاري بالنسبة لتغير صورة الذات عند المصريين. لكنني أكتفي هنا فقط بعرض الحالة العشوائية للتنظيم الهندسي لتلك المناطق التي غاب عنها الذوق والجمال في ذلك العصر! حين تمشي في شوارع أي مدينة أو قرية مصرية تجد حالة من العشوائية في التنظيم الهندسي للشارع والبيوت وكل شيء، فالعشوائية سمة سائدة في الحياة المصرية وفي الشخصية المصرية، وتكاد تكون هي السمة الثالثة من حيث الترتيب في الأهمية بعد الفهلوة والتدين، وهناك تسامح كبير تجاهها وقبول غير مبرر لها وكأنها إحدي السمات المميزة لمصر.. وهذا يتناقض بشكل كبير مع آثار الحضارة المصرية القديمة التي اتسمت بالانضباط والجمال والتناسق والدقة المبهرة، ويتناقض مع الآثار القبطية، والإسلامية والتي اتسمت بالجمال والبساطة والاعتدال والنظام والترابط. ويبدو أن العشوائية في الشوارع والبيوت وكل مظاهر الحياة (اللافتات، واللوحات، والمرور، والألوان، والأصوات) الخ.. وهي تعبير عن تشوهات نفسية داخلية لحقت بالشخصية المصرية عبر عصور الاستبداد والتدهور الحضاري والأخلاقي، تلك التشوهات التي تقبل بالقبيح والمعوج والقذر والملتوي في الخارج لأنها قبل ذلك قبلته في الداخل.. فهذا التشوه البيئي (صورة وصوتا) يعبر عن تشوه مقابل بالداخل، لأن النفس المستقيمة النقية الجميلة الصادقة، لا ترضي بالاعوجاج أو التلوث أو القذارة أو القبح أو الكذب حولها وبينها. وتختلف الجهات الرسمية فيما بينها حول عدد المناطق العشوائية ويعود هذا التباين إلي عدم اتفاق الجهات الحكومية علي تعريف موحد للمنطقة العشوائية. فمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء قدرها ب4301 منطقة عشوائية أما الجهاز المركزي للعتبئة العامة والإحصاء فقد أكد أن عددها 909 مناطق في حين أن معهد التخطيط القومي قال في دراسة حديثة له بوجود 9011 مناطق عشوائية في 20 محافظة يسكن بها نحو 7.71 مليون نسمة. وتمثل العشوائيات 03٪ من الخريطة السكنية في مصر، ويبلغ عدد المناطق العشوائية في محافظة القاهرة وحدها والمقامة علي أراضي الدولة 18 منطقة علي مساحة 0862 فدانا (المهندس ماجد جورج، وزير البيئة). والمناطق العشوائية في القاهرة الكبري تحتل مساحة 22 كم2 يسكنها أكثر من 2 مليون نسمة ففي الشمال تحتل العشوائيات مناطق شبرا الخيمة والمطرية وعين شمس وفي الجنوب تحتل مناطق دار السلام والبساتين وحلوان والتبين وفي الوسط توجد في الفسطاط واسطبل عنتر وحكر أبو دومة وماسبيرو وفي الشرق توجد في منشأة ناصر والدويقة والزبالين. كما تنتشر العشوائيات في الحدود المشتركة بين محافظتي القاهرة والجيزة بمناطق بولاق الدكرور وإمبابة (جريدة الشرق الأوسط 91/11/5002) وكشفت دراسة حديثة أيضا صادرة عن جامعة القاهرة عن ارتفاع نسبة مخالفات البناء في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق، مشيرة إلي أن نسبة مخالفات المباني في مصر وصلت إلي 09٪ من إجمالي العقارات الموجودة، حيث وصلت في حي المطرية إلي 8.29٪ وحي السلام إلي 49٪.. ووصل إجمالي محاضر المخالفات التي تم تحريرها عشرة أضعاف تراخيص البناء وفي عين شمس 69٪ بإجمالي عدد مخالفات 0305 مخالفة وفي الدرب الأحمر 07٪ وفي حي الجمالية 05٪. وتستطيع أن تحتفط فقط برقمين وهما أن 03٪ من الخريطة السكانية في مصر عبارة عن عشوائيات (ثلث البلد)، وأن 09٪ من المباني في مصر مخالفة، فهذان الرقمان يعكسان حجم الخلل والاضطراب ليس فقط في المنظومة المعمارية والسكانية ولكن أيضا في المنظومة الحياتية والنفسية والأخلاقية والجمالية والحكومية. وهذه الأرقام المقلقة تتزايد يوميا حيث تقوم أحياء وربما قري ومدن كاملة بعيدا عن تخطيط وتنظيم الحكومة، ولايقتصر هذا الأمر علي المناطق النائية البعيدة عن السلطة المركزية بل تتزايد العشوائيات بصفة خاصة في القاهرة، ويكفي فقط أن تمر علي الطريق الدائري (الذي يمر عليه يوميا زوار مصر من الأجانب) لتري هذا الكم الهائل من المباني العشوائية التي لا يزيد اتساع الشوارع فيها عن ثلاثة أو أربعة أمتار، ولا يوجد فيها أي تخطيط أو تنظيم، وهي عبارة عن أعمدة أسمنتية وطوب أحمر، والبلكونات متلاصقة تحجب ضوء الشمس وتمنع وصول الهواء النقي، والشوارع مليئة بالقمامة والقاذورات ومواسير المياه التالفة والصرف الصحي المتسرب. وإذا سرت في أي حي عشوائي فستصدمك هذه المناظر القبيحة بالإضافة إلي الروائح الكريهة التي تتصاعد من المباني والشوارع وأجساد البشر المكدسين، والأصوات النشاز الصادرة عن المسجلات والتليفزيونات والبشر المطحونين مما يشكل حالة من التلوث السمعي والبصري يؤدي بالضرورة إلي تلوث أخلاقي وفساد الذوق. وقد سجلت منطقة شبرا الخيمة وشارع الجلاء بمدينة القاهرة أعلي نسبة تلوث في العالم!!