في تلك الأيام.. في ذاك الزمان لم يعد شيء يدهشني.. أو تفاجئني غرابته أو حتي قبحه.. فنحن في عصر التغيرات السريعة.. في عصر انقلاب الموازين.. في عصر السرعة الرهيبة.. والاكتشافات التي تنقلك من حال إلي حال في تطور تكنولوجي يذهلك.. أما الذي مازال يصرعني حقا.. قدرة البشر علي التغير والتلون بحيث يصبحون.. رجال كل العصور!! عرفته وأنا صغيرة.. لم أتجاوز الخامسة عشرة من عمري.. ثوريا.. مغامرا.. وضع روحه علي كفه وقام ليدافع عن كرامة هذا البلد. من مستعمر أرهقنا وأذلنا كثيرا.. كان يتكلم بحماس بأن لابد أن يبدأ أحد بالخطوة الأولي وبعدها سيتبعه المترددون والخائفون.. والضعفاء.. وغير القادرين علي التضحية بحياتهم الآمنة المستقرة. كان مستعدا لدفع ثمن »الثورة« والتمرد والرغبة في التغيير ومنح هذا الوطن القدرة علي أن يحلم ويحقق هذا الحلم علي أرض الواقع تقدم وتطور وتعليم »يصنفر« العقول المتبلدة لتنطلق منها »طاقات« غير عادية.. تطير به إلي أعلي قمة فيك ياعالم.. كان يؤمن بأن هذا البلد الآمن قادر علي تجاوز كل المعوقات وعلي ضحضحة كل المؤامرات.. وعلي الانتصار علي كل الخيانات ونسف كل الأعداء.. أعداء الداخل أكثر من أعداء الخارج المعروفين.. كنت أنظر إليه وأنا علي أعتاب المراهقة مأخوذة بقدرته علي أن يطير بخيالنا لنري من خلال عينيه وحماسه معا.. مصر.. في مقام عالي تستحقه ويليق بأبنائها.. أحفاد الفراعنة.. ملوك الأسرار.. عباقرة الهندسة مفككي طلاسم الجسد الإنساني.. رواد الطب الحديث.. المؤمنين بخصوصية الجينات المصرية الأصيلة التي أذهلت العالم بعلمها المقدس.. بثقافة التوحيد.. بقيم الصبر والمثابرة.. بوفاء الزوجة.. إيزيس.. بالإيمان بالأبدية والعالم الآخر بيقين الحياة الأخري.. وميزان الثواب والعقاب.. بقناعة واقعية استمرار معارك الخير والشر.. حتي نهاية العالم.. كان يلقي علينا بالحكايات وهو يشارك في الثورة مختالا بتاريخنا.. الكامل.. المتكامل بأن سنوات ضعفنا واستعمارنا هي كبوة حصان.. تعثر في لحظة خيانة.. وقام بشموخ وكبرياء حصان عربي أصيل.. كنا أبناء العائلة ننظر إليه علي أنه »الشاطر حسن« الخارج من حكاوي جداتنا الحكيمات.. أو منطلقا كالرصاص من كتب التاريخ. ليعيد لنا.. السير الشعبية لأبطالنا القوميين.. كان الأمل.. يتخلق ويتمحور أمامنا ونحن نري كثيرا من حكاياه.. يتحول إلي واقع يشبه كثيرا آماله.. ونحن نكبر معه سنة وراء سنة.. ونري مرة بلدنا عظيمة.. كبيرة.. ذات عزة وكبرياء.. كانت مرحلة عزة قومية وكبرياء وطني.. عصر الأبطال الحقيقيين.. ليس كأبطال الورق الذي يحترق عندما يواجه بشرارات فساده ومصالحه.. فيهوي وتهوي معه أكاذيبه وادعاءاته!! كنت صغيرة.. ذات رومانسية (ثورية) ربما تفوقت علي رومانسيتي العاطفية المفرطة في الأمل والحب!! لم أكن أتصور أن الزمن قادر علي تغيير معدن الرجال.. وأن السنين قد تغير من قناعاتهم إلي هذه الدرجة المؤلمة من الإحباط لمريديهم في دائرتهم الصغيرة من الأصدقاء وحتي أفراد عائلتهم الخاصة.. لم أكن أتصور أن الإنسان قد ينتقل في سرعة جنونية من نقيض إلي نقيض آخر في انتماءاته.. في أفكاره ومعتقداته.. في معايير الصواب والخطأ.. الحلال والحرام.. قد تقولون.. إن الرجوع للحق فضيلة.. وقد يكون الواقع قد أسقط في امتحاناته العسيرة.. كثيرا مما كنا نؤمن به فعلا.. وجاءت تجارب السنين لتقول لنا.. إن ليس كل ما يبرق ذهبا.. وليس كل ما يصلح لعصر وظروف ما.. قد ينجح في أيام أخري.. نعم كلام جميل.. ومعقول.. إذا كان هذا ما حدث له ولكثيرين غيره ربما أفاقوا من وهم.. تصوروه حلما قادرا علي التحقق.. ربما تجاوز الزمن طهارة الثورات والثوريين.. ربما عجزنا عن حماية ما ضحينا بالكثير لتحقيقه.. استقلال.. تنمية.. عزة.. كرامة.. قدرة علي الصمود في مواجهة تكتلات أيديولوجية.. استعمارية بأقنعتها الجديدة.. ربما فرطنا فيما لا يجب التفريط فيه.. القدرة علي التخطيط.. لمائة عام إلي الأمام.. القدرة علي تحديد هوية العدو من الحبيب.. القدرة علي إدارة معاركنا بعلم وحكمة وانتماء حقيقي.. القدرة علي اختيار الحليف الذي يشاركنا.. ظروفنا ومشاكلنا.. والمخاطر التي نتعرض لها معا.. لنصد معا.. من يطمع في خيراتنا ويخطط لإضعافنا وتمزيقنا وتفجير أوطاننا من الداخل.. »بشعار فرق تسد«.. باختراق ثقافتنا ومنابع قواتنا.. بالطعن في قيمنا الدينية إسلامية كانت أو مسيحية التي تمدنا بكل مصادر القوة والعزة واحترام الذات. ❊ ❊ ❊ لا أعرف لماذا تفجرت في داخلي قنبلة ذكريات هذه المرحلة الجميلة من عمري ومن عمر البلد.. وإن اختلفت حولها الآراء.. ولكنها كانت مرحلة عزة وكرامة.. ومشاريع وطنية التففنا حولها جميعا!! خرجنا كلنا من عباءة الخاص جدا والمادي جدا والمباشر جدا لمصالحنا الخاصة.. لا لم نغفل حقها علينا.. فلسنا ملائكة ولكننا نحينا الأنانية قليلا أو مزجنا ما بين العام والخاص في خلطة سحرية كانت ملائمة لهذا الزمن.. فالبلد كان بلدنا.. والحرب حرب بقائنا.. والمصلحة كانت واحدة.. كانت مرحلة العطاء الكبير والأبطال الشعبيين.. والفن العظيم.. والإبداع التي فجرته لحظة وعي بقدراتنا وإمكانياتنا.. كنا فخورين بقدرتنا علي الفعل والتغيير.. قدرتنا أن نكون رقم كبير في الفضاء يشار إليه.. بأن هنا علي هذه البقعة الصغيرة الخضراء.. وجد شعب دفع ثمن الحرية.. وكسب مكانة وثقة بالنفس.. ونظرنا خلفنا إلي تاريخنا المصري الفرعوني القديم.. وابتسمنا له وأومأ إلينا برأسه مشجعا.. فلقد عادت البسمة إلي وادي الملوك.. ❊ ❊ ❊ وكبرت ونضجت ومرت مياه كثيرة.. علي النهر العظيم.. وقفز علينا.. ما كان مختبئا في الأحراش مترصداً لتهاونا علي حماية تلك المرحلة العظيمة التي أفزعت الكثيرين وصمموا ألا تعود مرة أخري.. والأكثر خطورة.. خططوا وتآمروا ألا تظل حية في ذاكرة من عاصروها.. وأن يشوهوها. ويتلاعبوا في تاريخها حتي لا تعود الهمة إلي أحفاد هؤلاء المقاتلين العظام ! وغاص الكثيرون إلي الأعماق لتمر عليهم الموجة الجديدة برجالها الجدد وسياستهم الفاضحة لهم.. وعاد باشوات الماضي لينتقموا ممن طردهم من جنة الخلد القائمة علي جماجم وأجساد أبناء مصر المحروسة.. وجاء المال ليحكم ويتحكم.. لتسود قيم المادية والتملك ونسي الجميع أن يسألوا الباشوات الجدد.. من أين لك ذلك ياعم؟ وكيف تحول ثوار الأمس.. إلي باشوات اليوم.. يتاجرون بكل شيء ويستمتعون بكل حرام.. وتأتي لهم الجرأة.. أن يتهموا الشعب المسكين بكل الاتهامات والموبقات والمفاسد!! وكانت المواجهة مع بطلي القديم.. الرجل الذي كان.. يوما.. رجلا.. بجد!! ❊ ❊ ❊ قلت له.. إن التغيير قادم.. ذلك قانون الطبيعة بقاء الحال.. من المحال.. أين ومتي وكيف؟ لا أستطيع أن أعطيك ميعادا ولكن الصحوة التي نراها.. والوعي الذي نستشعر به والرغبة في كسر القوالب الجامدة لا تخطئه إلا عين منكرة أو رافضة أو تعميها مصالح يخاف أن تزول نعمتها.. من يديه وكانت المفاجأة!! فقد قال .. والله بإيمان حقيقي فيما يعتقده اليوم نحن شعب تعودنا علي العبودية.. تعودنا علي أن نساق بالعصا.. تعودنا علي الصبر المهين.. نحن مواطنون.. »بق«.. طق حنك غير قادرين علي الفعل.. حتي أننا فقدنا دمنا الحامي.. حتي أعراض فتياتنا في الشارع عجزنا عن حمايتهن خوفا من سكاكين البلطجية. هذا هو الشعب الذي تتصورين أنه القادر علي التغيير.. المطالب به سلميا.. الذي يلجأ إلي المؤسسات الشرعية لعلها تنظر إلي مطالبه نظرة عطف!!.. هذا الشعب قد انتهي تماما.. ❊ ❊ ❊ لا والله.. أنت الذي انتهيت.. أنت الذي فرطت وخضعت للموجة.. أنت الذي خنت رفقاء السلاح.. كل سلاح أنت الذي تنصلت من ماضيك انضممت إلي الخونة وبائعي الضمير ومستغلي قوت الشعب.. وآكلي المال الحرام.. أنت وغيرك.. رجال كل عصور.. تتلونون كالحرباء تستفيدون من كل العصور. ربما خابت آمالك في مرحلة ما من تفاؤلك الوطني. ولكن أن تفرط بهذه السهولة.. أن تتحول من ثوري مقاتل مدافع عن حقوق الشعب والوطن.. إلي باشا مثل الباشوات الذين وضعت قلبك علي كفك لإنقاذ العالم منهم فهذا ليس تغييرا في القناعات عن قناعة أو استبدال قيم تلائم العصر الجديد. هذه خيانة غير مشروعة لبلد يستحق من أبنائه التضحية والانتماء ودفع ثمن التغيير.. وسوف تعيش بلدنا.. حرة.. أبية.. بجهود علمائها وكفاءة رجالها.. وتصميم عقلائها.. ورياح التغيير التي تطل علينا مطالبة منا أن نستنشق عبيرها.. فلا تسقط ضعفك علينا أيها الرجل الموالي لكل العصور. فمازال في مصر.. رجال قادرون علي إحداث التغيير الذي يلائم تاريخنا وكرامة أبطالنا القوميين وتضحيات شعبنا علي مدي العصور. وستبقي مصر هي مصر التي في خاطري والتي كانت يوما في خاطرك قبل أن تطيح بعقلك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة وعندما يأتي ميعادك حيث سترحل.. لن تجد من معين.. سوي أيام فروسيتك الأولي.. لعلها تنقذك من يوم.. يفر فيه المرء.. من أمه وأبيه ورفيقته وبنيه!!