"لم أعد قادراً علي تولي منصب الرئيس في الداخل والخارج كما يجب" كلمات حزينة وضع بها كريستيان فولف، نهاية لوجوده في موقع رئيس جمهورية ألمانيا الاتحادية، بعد نحو 598 يوماُ فقط من توليه المسئولية. في وقت نزف العديد من الشعوب العربية، ولا تزال، كثيراً من الدماء لخلع رؤساء وحكام قبضوا علي مقاليد السلطة، لعقود طويلة، مارسوا خلالها كل ألوان الديكتاتورية والقمع والفساد، خرج الرئيس الألماني صباح الجمعة الماضية، ليقدم استقالته، بعد أقل من 24 ساعة فقط، من مطالبة الادعاء العام في بلاده، برفع الحصانة عنه، ليتمكن من التحقيق في تقارير صحفية وإعلامية، تناولت علاقة فولف، بمستثمرين ورجال أعمال أغنياء، أثناء توليه منصب رئيس وزراء ولاية ساكسونيا السفلي، بين عامي 2011/ 2013. كانت صحيفة بيلد الألمانية، واسعة الانتشار، قد نشرت في ديسمبر الماضي تقارير مثيرة تضمنت اتهامات لفولف، 52 عاماً، بالإساءة إلي منصبه، حينما كان علي رأس حكومة ساكسونيا السفلي، عبر حصوله علي قرض بقيمة نصف مليون يورو وبفوائد مخفضة لشراء منزل في مدينة هانوفر، إضافة إلي قضائه وعائلته إجازة علي نفقة أصدقاء أثرياء له، ما فجر موجة عنيفة من الهجوم علي الرئيس الألماني المستقيل، ازدادت حدة وشراسة بعد أن كشف كاي ديكمان رئيس تحرير بيلد، عن أن فولف مارس علي الصحيفة نوعاً من الضغوط لمنع استكمال النشر في القضية. ورغم الاستقالة يثق فولف في براءته، ومن ثم قطع بحسم أثناء إلقاء بيان الاستقالة، بأن المداولات القانونية المنتظرة، بخصوص الاتهامات الموجهة إليه "ستبرئ ساحته حتماً"، قبل أن يوجه كلمة للأمة الألمانية بأنه طالما أحب كونه رئيساً لألمانيا (وهو منصب شرفي إلي حد ما، ولا يملك صلاحيات واسعة)، وأنه تصرف دوماً، وخلال شغله العديد من المناصب الرسمية، بشكل صحيح، وكان مستقيماً علي طول الخط، لكنه وزوجته باتينا شعرا بإهانة شديدة طيلة شهرين ماضيين، جراء التقارير الإعلامية العنيفة ضده، فيما قال إن بلاده تحتاج إلي "رئيس يجد ثقة واسعة من الشعب، ويمكنه التفرغ للتحديات الداخلية والدولية". وعاش فولف ساعات عصيبة قبل تقديم استقالته، خاصة بعد أن صمم الادعاء العام في مدينة هانوفر، علي رفع الحصانة عنه، للتثبت من مدي صحة تورطه في أي عمليات استغلال نفوذ. الادعاء وصل إلي تلك المرحلة، بعد دراسة دقيقة لعدد من الملفات، وإثر رصد متكامل لمختلف التقارير والتغطيات الصحفية، المتعلقة بالتعاملات المالية الخاصة بالرئيس الألماني في الفترة الأخيرة، ومن ثم ثارت شكوك مبدئية قوية تؤشر لحصول الرئيس علي مميزات وضمانات خاصة، بالمخالفة للقانون. لكن الادعاء العام في هانوفر، يؤكد أن طلبه التحقيق في تلك الاتهامات الموجهة ضد فولف، لا يمثل إلا أداة رسمية وقانونية، لمعرفة ما مدي صحتها من عدمه، وعليه فإن احتمالية براءة الرئيس المستقيل، واردة جداً. ولعل ما زاد موقف فولف تعقيداً، في الفترة الأخيرة، قيام الشرطة الألمانية باقتحام منزل أولاف جلايسيكر المتحدث السابق باسمه، في إطار اتهامات موجهة إليه أيضاً بالرشوة، إبان تولي فولف السلطة في ولاية ساكسونيا السفلي، فضلاً عن الشبهات التي حامت حول زوجته بأنها "حصلت علي ملابس فاخرة من أفضل الماركات الألمانية، تم شراء بعضها، وأحياناً استعارتها مقابل رسوم معينة، فيما حازت علي بعضها مجاناً، إلي جانب أنه حصلت علي مئات الآلاف من اليوروهات من شركات الملابس الفاخرة مقابل الترويج لمنتجاتها، بارتدائها في المناسبات العامة والرسمية. المثير أن مظاهر الربيع العربي وثوراته، كانت حاضرة في أزمة فولف قبل استقالته، حيث تجمهر مئات الأشخاص أمام القصر الرئاسي الشهر الماضي، فيما عبروا عن غضبهم الشديد منه برفع الأحذية وطالبوه بالرحيل فوراً، في حين رفعوا شعارا عريضا لتظاهرهم بعنوان "حذاء من أجلك، سيادة لرئيس"، وجزم عدد من المحتجين بأنهم استلهموا فكرة رفع الأحذية من الثوار العرب، بينما نشطت حملة في فيس بوك لحشد الرأي العام الألماني ضد الرئيس، ماتكلل في النهاية بتركه منصبه. يشار إلي أن مهام الرئيس في ألمانيا الاتحادية، في الأغلب مهام بروتوكولية، كما أنه يمارسها باعتباره سلطة محايدة، كما أنه يمثل حارساً للقانون الأساسي (الدستور)، ويبرم باسم الحكومة الاتفاقيات مع الدول الأجنبية، فيما يستقبل السفراء ويتسلم أوراق اعتمادهم، وبحسب هيئة الإذاعة الألمانية، دويتشه فيله، فإن بعضاً من الرؤساء التسعة الذين سبقوا فولف، منذ تأسيس الجمهورية الألمانية في العام 1949 أبدوا عدداً من التحفظات الخاصة بالدستور. فيما تعد استقالة فولف، هي أول استقالة لرئيس ألماني في التاريخ، ويبدو أنها تمت، بحسب بيلد، بعد مداولات مع مجموعة الأزمة وعدد من أقرب مستشاريه، وبعد اتصالات مكثفة مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي يرجع إليها الفضل في ترشيح فولف للمنصب، كما كانت داعمه له خلال فترة عمله، وعليه بدا الأمر طبيعيا أن تعلق ميركل علي استقالته بالإشارة إلي أنها "تحترمها بشكل كامل" وتتعامل معها ب"خالص الأسي"، قبل أن تقدم له الشكر علي ما بذله من طاقة جبارة من أجل "ألمانيا حديثة ومنفتحة". استقالة فولف وضعت أيضاً الائتلاف الحاكم، الذي يتكون من كل من التحالف المسيحي، الذي تنتمي إليه ميركل، والحزب الديمقراطي الحر، في موقف حرج لاختيار خليفة له، بينما قطعت بيلد بأن بورصة الترشيحات تنحصر بين كل من وزير الدفاع توماس دا مايتسيره، ووزير المالية فولفجانج شويبله، ووزيرة العمل أورزولا فون لايين، ورئيس البرلمان (البوندستاج) نوربرت لاميرت، ووزير البيئة السابق كلاوس توبفير، ورئيس المحكمة الدستورية الاتحادية أندرياس فوسكوله، إضافة إلي المدعي العام السابق لألمانياالشرقية ومنافس فولف السابق علي منصب الرئيس يواكيم جاوك، فيما سيقوم رئيس حكومة ولاية بافاريا هوريس زيهوفر، بمهام الرئيس المستقيل لحين انتخاب خليفه له.