لكل حاكم مدة صلاحية، تنتهي عندما يتجاوز بقاؤه في الحكم الوقت الشرعي، فيصاب بأعراض الاستبداد والتمكن والسيطرة والنهم والشره والفساد والرغبة في امتلاك العالم وإدمان السلطة »لا تتعجلوا مجيء الفرعون.. فهو قادم لا محالة« أتبني هذه الجملة الحكيمة ذات الرؤية البليغة الثاقبة لصاحبها وقائلها الكاتب الصحفي المخضرم ضياء رشوان.. إن اندفاعنا المحموم نحو تأسيس نظام رئاسي يتعجل إشغال الكرسي الشاغر قبل وضع الدستور، بضوابط ومشاركات مختارة من كل طوائف الشعب كما يحدث في النظم السياسية الحديثة، أقول إن تتويج الرئيس علي عجل سوف يؤدي بالضرورة إلي إعادة تخليق مستبد جديد يتدخل في صياغة الدستور ليلائم أهواءه ولا يقيده أو يحاسبه أو يسقطه إلا بثورة غضب مثل 25يناير التي تمخضت بعد خراب داهم وإفقار كاسح وفساد عارم من مبارك وأسرته ونظامه.. وكان ثمن إزاحة الفرعون فادحا، حيث تعثرت جهود استرداد الأموال المنهوبة المهربة، وتوالت جرائم الثورة المضادة لتؤخر التقدم الثوري وتعيق المجتمع المجهد عن الاستفاقة والإنجاز.. والسبب بالطبع، تمدد الفرعون مبارك كالسرطان الوحشي علي عرش مصر طوال 30سنة لم يسمح فيها لصوت حق بأن يحاسبه، فكان مثالا دنيئا للمثل الشائع القائل: »يافرعون إيه فرعنك.. قال ملقتش حد يلمني«!! كانت شرعية مبارك علي حد قول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قد تشكلت مع انتصار أكتوبر 1973، كقائد عسكري نسبت إليه الضربة الجوية في المعركة، ورغم ما ذكره بعض قادة القوات الجوية الذين زاملوه وقاتلوا تحت إدارته، من أنه كان محدود الرؤية، ومنفذا دقيقا لتعليمات الآخرين (وهو ما دعا الرئيس السادات إلي اختياره نائبا) إلا أن الحظ الذي لازمه طوال حياته، جعله رئيسا لمصر بعد النهاية التراچيدية بمقتل السادات عام 1981.. وفي مستهل سنوات حكمه، أبدي مبارك من رحابة الصدر والتواضع والمرونة ما جعل الشعب المصري الخلوق يتجاوب معه، خاصة أنه كان يمنع الصحافة من الاقتراب إلي بيته وزوجته وأبنائه، باعتبارهم أسرة مصرية عادية.. كما أعلن أن زوجته مثل أي امرأة مصرية لها دور واحد فقط هو الزوجة والأم.. وسرعان ما انزلقت أقدام الست الزوجة والأم فكونت حاشية، وعينت وزراء، ولعبت برأس الزوج الحاكم والابن الطموح، حتي كانت الخاتمة التي نعرفها جميعا.. يعني باختصار، سكوت وصبر الشعب المصري 30عاما علي طموح وأطماع هذه الأسرة الشرهة جعلهم يحلمون بإنشاء سلالة حاكمة علي غرار السلالات المصرية القديمة كالرعامسة وسلالة أمنحتب وأسرة محمد علي!! فالرجل الذي أعلن اكتفاءه بالحكم مدتين فقط، جثم علي أنفاسنا طوال 30سنة، وأراد أن يورث ابنه الحكم من بعده! أما الرئيس السادات الذي انتهي نهاية مأساوية تحذرنا من الأسلوب الانتقامي للإسلاميين المتطرفين (حتي لو قدموا مراجعات فكرية ليستأنسوا المجتمع الذي يخشاهم إلي حد المقت).. أقول إن الرئيس السادات كان يشبه الحكام الفراعنة في نهايات عهده.. إذ كان يظهر في احتفالات نصر أكتوبر بهيئة كهيئة الملك رمسيس الثاني مرتديا أبهي حلله فوق عربته الحربية الشهيرة.. أما النقد، فلم يكن الرئيس الأب، كبير العائلة المصرية كما كان يسمي نفسه، يحتمل أن ينتقده أحد والشاهد علي ذلك حوار دار بينه وبين رؤساء اتحادات الطلبة في السبعينيات، وكان بينهم الكاتب الصحفي حمدين صباحي ود.عبدالمنعم أبوالفتوح المرشحان المحتملان للرئاسة الآن.. والمثير في حواره مع د.عبدالمنعم أبوالفتوح أن السادات فقد أعصابه وقدرته علي الإجابة بموضوعية عندما نقد له أوضاع الدولة فاندلع منه فجأة مارد الفرعنة وقال له: »أقف مكانك«!! فرد عليه د.أبوالفتوح بثقة وشجاعة وثبات.. »أنا واقف مكاني«.. فعاود السادات الذي تقمص دور رمسيس الثاني: »مكانك.. هو دينك قال لك تكلم كبير العائلة كده«؟.. »ده سلوك لا يرضاه الإسلام«.. هكذا كان السادات في أواخر عهده.. مفتونا بفكرة تقديس الحاكم وتنزيه كبير العائلة المصرية!! أما الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، فكانت له كاريزما وهيبة زعامية تلقائية، حتي أن كثيرين ممن التقوه ورأوه وجها لوجه أصيبوا بالخرس والوجوم!! ولنا في خروج الشعب لاستبقائه بعد التنحي إثر نكسة 1967 مثال مثير، حيث خرجت الجماهير العريضة سيرا علي الأقدام إلي بيته لإثنائه عن التنحي رغم كارثة النكسة الرهيبة!! ويقال إن من عرفوا في عهده بمراكز القوي، أو أذرع الفرعون الإجرامية لوأد المعارضين، كانوا يتولون القهر والاعتقال والتعذيب دون علمه، وبأوامر مباشرة من رجال أشراس مثل صلاح نصر وحمزة البسيوني الذي انتهي نهاية مروعة في حادث سيارة، كأنما وفرت له الأقدار الإلهية خاتمة ملائمة لما اقترفه من تعذيب في حق الأبرياء من المعتقلين والسجناء السياسيين.. لكل حاكم مدة صلاحية، تنتهي عندما يتجاوز بقاؤه في الحكم الوقت الشرعي، فيصاب بأعراض الاستبداد والتمكن والسيطرة والنهم والشره والفساد والرغبة في امتلاك العالم وإدمان السلطة، والنفور من النقد وإعلان الحقائق المضادة لمصالحه.. مات عبدالناصر »موتة ربنا« وفي أقوال أخري.. مات مسموما والله أعلم! ومات السادات مقتولا علي يد أولاده في الجيش من المتطرفين الذين أطلق سراحهم ويدهم للفتك باليساريين والشيوعيين ففتكوا به! ولا يزال مبارك يبارك الثورة المضادة، ويبرهن بها من محبسه الوثير بالمستشفي العالمي علي رأيه السابق الذي ضمن به عرشه وأرهب به أمريكا والغرب.. »أنا أو الفوضي«!! حتي رفعت أمريكا يدها وتوقفت عن دعمه فأصبح رهنا لأتباعه الفاسدين من ممولي البلطجية المأجورين لإضرام النار في المجتمع المصري حتي لا تقوم له قائمة!! يعيش مبارك أضغاث حلم سابق عندما غني له المنشدون من جوقة المنافقين في احتفالات أكتوبر ذات سنة: »اخترناك لما شاء الله«!! فتغذت في عقله فكرة التأبد والبقاء إلي آخر الدهر مع الذين أعلنوا تلك الرغبة في أغنية قميئة!!.. يصدق الطغاة كلام الأغاني السفيهة.. تملؤهم بالزهو والانتشاء وتصيبهم بجنون العظمة.. وتلك معضلة الفن والإعلام الرقيع الذي يؤله الحاكم ويسلب الشعب المهيض إرادته وحقوقه لحساب الفرعون المتفرعن الطاغوت الباغي!!