هل تذكرون محمد الطاهر، إنه زعيم عصابة البهجة الذي كان يسير مع مجموعة من الشباب يوزعون البالونات الملونة وغزل البنات علي الناس في الشوارع مقابل الحصول علي ابتساماتهم وكسب ودهم والتخفيف عنهم ولو بلمسة بسيطة، هو أيضا نفس الشاب صاحب مبادرة "هل حضنت ابنتك اليوم؟" والتي كان يسعي من خلالها إلي استعادة الصلة المفقودة بين الأب وابنته ليوفر للفتاة المصرية ذخيرة نفسية تضمن لها مواجهة الحياة.. "خلوا الونس يسري" هي آخر حبة في عنقود مبادرات الطاهر.. يحارب بها إدمان شاشات الأجهزة الذكية علي مواقع التواصل الاجتماعي بتواصل إنساني مباشر .ليعود المصريون إلي سابق عهدهم من التزاور والقرب والمودة والدفء.. تهدف إلي نزع التكشيرة من الوجوه واستبدالها بضحكة مصرية من بتاعة زمان.. هي محاولة للانتصار علي السلوكيات السيئة بنشر السلوكيات السليمة. • لماذا "خلوا الونس يسري"؟ - لأن الونس كالدفء، إحساس مطمئن ينتشر تدريجيا، ويبث الراحة فيمن يصل إليه. علي عكس البرد، والوحدة، شعور موجع، يبعث الذبول في روح الإنسان، ويقتل كثيرا من النشاط والمشاعر والأفكار الطيبة في داخله. ولأننا صرنا أشبه بالجزر المنعزلة، غرقنا في شاشات الأجهزة الذكية، حتي صرنا لا نتلاقي إلا نادرا، وكادت العيون أن تفقد لغتها، وكادت تلك اللغة أن تفقد معناها. ولأننا صرنا نتعامل مع من لا نعرفهم كأعداء محتملين، لا نتوقع منهم غير الاستغلال والشر، علي عكس الترحاب والمودة والحميمية التي كان المصريون معروفين بها. ولأن شوارعنا صارت مساحة للتحرش والصراخ والتدافع، حتي صارت الملامح عابسة. من أجل كل هذا، كان شعار خلوا الونس يسري، ليكون دعوة وبداية لإعادة تذكيرنا بالتواصل الإنساني المباشر، والتعارف، والتلاقي، ونشر المحبة، والابتسام، والطمأنينة، علي أمل أن يساهم هذا في بناء مجتمع أكثر إنسانية ودفئا. مبادرة الونس إذن جزء من حلم أكبر؟ - الحلم الأعظم عندي هو المساهمة في إعادة مجتمعنا إلي ما كان عليه في السابق من دفء وأمان وسلام نفسي وتوادد. منذ شهور، وكلما أتحدث مع أحد من الأصدقاء أو المعارف العابرين أو الجدد، أطرح في حديثي مفهوم "الموجة البيضاء"، كمحاولة عملية للإجابة علي سؤال: كيف نغير العالم؟ ومعناه أن يتحول كل منا إلي نموذج عملي لكل ما يرفضه من سلبيات يعانيها المجتمع، بحيث أنك عندما تري سلوكا سلبيا، لا تكتفي بانتقاده والهجوم عليه، بل افعل العكس منه. عندما تري تقطة سوداء في مكان ما، ارسم نقطة بيضاء في المكان الموازي، وتدريجيا تزداد النقاط البيضاء. قصدي من الفكرة إننا نحاول نكون - عمليا - الضد لكل سلوك بنقابله ونشوفه ونرفضه، إنك تشوف نقطة سودا في اتجاه ما، فترسم نقطة بيضا في الاتجاه المضاد، وشوية شوية، النقاط تتجمع، وتتحول إلي موجة فعالة ومؤثرة تغسل وتكنس وتمسح، ويميل الميزان المجتمعي باتجاه البياض. ولأن السلوك السلبي الأبرز في مجتمعنا كان غياب الأمان، بما يتجسد في التحرش والأنانية والتزاحم وقلة الثقة في الآخرين، صرت أدعو لأن يكون كل فرد هو بؤرة الأمان لمن حوله، بأن يقدم لهم التفهم والاستيعاب والطبطبة والرفق والرحمة والمودة المجردة والبهجة قدر المستطاع، لعلنا نساهم في بناء عالم أكثر أمانا، لنا ولمن حولنا ولأولادنا من بعدنا. كيف بدأت فكرة المبادرة؟ - المبادرة بدأت تتخذ مسارها العملي بشكل عفوي وفردي، قبل أن تنتشر فجأة وتكبر وتتطور وتتحول إلي حديث الناس علي السوشيال ميديا. فمنذ عامين، وكلما كان لديّ وقت فراغ كنت أختار صديقا أو صديقة ممن لا أعرفهم شخصيا، وأطرح عليه فكرة اللقاء، لحضور حفل التنورة أو المسرح أو حتي التمشية المجردة في شارع المعز. في العادة كنت ألاقي ردود فعل إيجابية، أكسبتني العشرات من الأصدقاء خلال عامين. وأحيانا كنت أكتب "بوست" علي صفحتي" أني قررت دعوة 4 من المتابعين علي عرض مسرحي في المكان الفلاني، وأحدد الوقت والمكان، فأجد 10 مثلا يراسلونني أنهم مستعدون لقبول الدعوة، ونلتقي جميعا، وأجدهم صاروا أصدقاء. وبناء علي تجربتي تلك، كتبت في 16 أكتوبر الماضي أشجع الكل علي تجربة الأمر: "ممكن طلب؟ لما تحس بوحدة، اختار حد أونلاين ترتاح له واقترح عليه تنزلوا تشربوا قهوة سوا، تتمشوا، تروحوا مسرح مثلا، أي حاجة لطيفة. ممكن طلب تاني؟ ممكن لما حد يكلمك يعزمك، تحاول ماترفضش؟.. خلوا الونس يسري. الدنيا هتبقي أبسط وأجمل كتير. اللهم إني بعملها كتير، وبكسب صحاب حلوين خالص". كان هذا نص البوست الذي انتشر بسرعة مهولة، وتحولت جملة "خلوا الونس يسري" إلي حالة عامة تتناقلها الصفحات، صار معها المئات يتبادلون المواعيد بهذا الشكل، خاصة وأني أتبعته بعد يومين ب"بوست" آخر، أحكي فيه تجربتي مع شاب وفتاة لا أعرفهما، طلبا لقائي في يومين متتاليين، وكان لقاؤنا جميلا ومبشرا بصداقة لطيفة. لاحقا تطورت الفكرة إلي لقاءات جماعية، لا فردية، بدأت من القاهرة، ثم الإسكندرية، حيث شاركت في لقاء ضم نحو 20 شابا وفتاة في قلعة قايتباي، كنا جميعا نلتقي للمرة الأولي. وتحولوا إلي أصدقاء دائمين يتقابلون بشكل دوري. ثم انتقلت إلي طنطا والمنصورة والزقازيق وكفر الشيخ وبورسعيد وسوهاج. هل تستخدم وسيلة أخري بخلاف الفيس بوك للترويج لها؟ - لا. ما أغرب الحالات التي صادفتها؟ - قبل أسابيع، استقبلت رسالة من فتاة سكندرية لا أعرفها، أنها قررت الانتحار وتبحث عن أي شيء يجعلها تتمسك بالحياة. لم يكن لديّ ما أقوله لها، خاصة وأني لا أعرفها شخصيا، وأي قول سيبدو نظريا ومفتعلا وغير حقيقي، فأضفتها إلي مجموعة الونس في الإسكندرية، لم أقل لهم سوي إنها بحاجة إلي صحبة. تركتهم يرحبون بها، ثم رحت لمتابعة يومي بشكل طبيعي، وبعد ساعتين وصلتني رسالة من أحدهم: أخمدنا محاولة انتحار محققة. خلال ساعتين، استطاع الأصدقاء استيعاب الفتاة، ودمجها بينهم حتي إنها حكت لهم كل شيء، واتفقوا علي اللقاء في الصباح الباكر، وغنوا معا ولعبوا. وبشكل يومي، صارت تصلني رسائل منهم فيها قدر عظيم من الامتنان لتأثير فكرة الونس في حياتهم، فمنهم من يقول إنه وجد أخيرا عائلة، وونسا ودفئا ومحبة خالصة بلا مصلحة، ومنهم من يقول إنه صار لديه شغف بالحياة. كيف كان اللقاء علي أرض الواقع؟ - اللقاءات علي أرض الواقع عادة ما تبدأ بالتعارف السطحي، اسمي، سني، دراستي أو عملي، ثم نبدأ في طرح العديد من الأسئلة التي تتيح لنا استكشاف بعضنا البعض، ومواقفنا في الحياة. مع بعض من الغناء الجماعي والفردي، وبعض الألعاب الذهنية أو اليدوية المرحة. كرة من الثلج الدافئ، تتدحرج في كل مكان، وتكتسب المزيد من القلوب الطيبة القادرة علي محبة الآخرين وإنفاق الوقت والطاقة من أجلهم ومعهم. بعد كل لقاء، أجد المزيد منهم صاروا أكثر قربا ومودة واستعدادا لمساعدة الآخرين وإسعادهم وبذل الجهد من أجلهم. طاقة محبة خلاقة تتلاقي تحت شعار الونس، وتتوادّ بلطف وإنسانية خالصة. ما هي خطتك لتطوير المبادرة؟ - المبادرة تطور نفسها بأفكار من فيها. العديد منهم يطرحون الآن اقتراحات لتطويرها، وأترك كل هذا لعفوية الفكرة. لكني أحلم أن تتحول مجموعات الونس إلي نقطة إلهام للملايين من الناس، ليعود المجتمع إلي سابق عهده من التزاور والقرب والمودة والدفء، وتعود ضحكة المصريين إلي اتساعها وانطلاقها وبراءتها وترحابها المعروف للجميع، قريب وغريب. هل تنوي الخروج بها خارج القاهرة؟ - المبادرة خرجت بالفعل، وبنفس العفوية، إلي نحو 10 محافظات، وما زالت تتمدد. وكلما يتفق مجموعة من الشباب والبنات علي التلاقي تحت شعار الونس، يدعونني لحضور لقائهم الأول، فألبي الدعوة بمحبة، وأحرص علي تذكيرهم بمعني الفكرة ومحتواها وأهدافها، لئلا تتوه منهم، أو ينحرفوا عنها. الفكرة إنسانية وحسب، لا تسعي لأكثر من تأمين المزيد من الدفء والصحبة والونس لكل من يشعر بالوحدة، وليبدأ كل منا بنفسه فيكون هو مساحة الأمان لمن حوله، فلا يستغلهم ولا يخدعهم ولا يجرحهم. أين كبار السن والأطفال من المبادرة؟ - المبادرة مفتوحة للجميع، كبار السن يمثلون نسبة ضئيلة للغاية من جمهورها، لكن منهم من حضر وشارك وساهم بأفكاره ووقته، والأطفال عادة ما يأتون مع ذويهم، ويكون حضورهم مبهجا ومنيرا وحيويا. ألا تخشي من إساءة استغلال الفكرة؟ - الخوف شعور افتراضي. بمعني أنك تتوقع شيئا ما سيئا قد يحدث، ولن تستطيع التعامل معه، وهذا يبعث داخلك شعورا بالخوف. لكن لو أن الموقف لا يحتمل سيناريوهات مؤذية، أو أنك واثق بقدرتك علي التعامل مع كل الاحتمالات، سيتلاشي فيك الخوف. وبشكل نظري بحت، يمكن لمبادرة كهذه أن تتسبب في أذي لأحدهم، لكن هذا سيكون من نتاج المجتمع الذي تسعي المبادرة إلي تهذيبه، وليس نتاج المبادرة نفسها. كما أن أي سيناريو مؤذٍ سيكون من السهل إجهاضه مبكرا، بأن تكون اللقاءات في مكان عام وفي وضح النهار، حتي يطمئن الناس لبعضهم البعض، وتتحقق الثقة والأمان. لكن وللأمانة، لم يحدث شيء سلبي حتي الآن، الآلاف استجابوا للفكرة، ووصلتني عشرات الرسائل المبشرة الفرحة بالتجربة، والمتحمسة لها. خاصة أنها تخاطب النفوس الطيبة الصافية، وتدعوهم لإخراج تلك الروح من داخلهم لتفيض علي من حولهم.