علي ضفاف جزيرة الدهب، تلك المنطقة القابعة علي النهر العظيم يحتضنها كجنينة يغذيها من شريانه المتدفق فيحيلها جنة من الجنان الخالدة، هنا تتجلي المفارقات والمتناقضات، قصور شامخة يسكنها علية القوم وبيوت طينية تزخر بأوجاع الغلابة حالهم كحال معظم بني جلدتهم من المصريين، مراكب نيلية متهالكة تحتضن ذويها ليخرجوا للبحث عن لقمة العيش وآخرون لم يجدوا سوي أرض طينية يزرعوها ليسدوا الأفواه المفتوحة، لا يربطهم بالمدينة الأم سوي معدية نيلية تعد بوابتهم ومتنفسهم للحياة. علي مقربة من البيوت المتواضعة توجد "أبعدية البرنس" كما أطلق عليها الأهالي، تحفة معمارية تبرز وسط الجزيرة لتؤكد أنها بحق "الجزيرة الذهبية" فقد بني علي غرار القصور العثمانية المهيبة الشبيهة بالقلاع الحصينة فممنوع علي أي غريب الاقتراب منها، إلا أن البرنس "نجيب حسن" آخر أحفاد أسرة المماليك جعل قصره ملاذا للمحتاجين ومزارا لطلاب العلم ونجوم المجتمع ليعيشوا بجنباته برهة كأنهم امتطوا آلة الزمن العجيبة فنقلتهم للأساطير القديمة وحكايات ألف ليلة وليلة. ولكن من المؤسف أن يصبح ذاك القصر في مهب الإزالة بعد قرار وزارة الري بتدمير جزء منه ليتم تدشين حملة توقيعات لمنع إزالته وينتفض مثقفو مصر ضد القرار. "آخر ساعة" قضت يومًا في تلك المملكة مترامية الأطراف والتي استغرق بناؤها أكثر من عشرين عاما علي غرار قصر الجد الأكبر والذي تحول بعد ذلك إلي "المدرسة السنية للبنات" بأمر من علي باشا مبارك رائد الإصلاح التعليمي، ليستقبلنا البرنس بطلته المهيبة وبهائه الفرنسمصري ليفتح لنا خزائن أسراره وتاريخ عائلته المملوكية كآخر نسلهم في جلسة قاربت الساعتين. البداية كانت مع جعفر عبد الحليم، ناظر دائرة قصر جزيرة الذهب، كما أطلق علي نفسه، وهو الخادم الأمين للبرنس، يمتاز بقوة بنيان وبشرة سمراء ولهجة نوبية لم تمحها سنوات إقامته الطويلة بالقاهرة أو مجاورته لأمير يتحدث العربية بصعوبة، منذ اللحظة الأولي لمحادثته تليفونياً حتي رحب بزيارتنا وأرسل لنا "لانش البرنس الخاص" لينقلنا من علي شاطئ نيل المعادي حتي القصر، اللانش يعود تاريخ صناعته لحقبة الأربعينيات تمت صناعة كابينة قيادته من الأرابيسك الفاخر ومقاعده من الزان الأصلي، ومنذ اللحظة الأولي لدخولنا جنبات القصر حتي انفصلنا عن واقعنا الحالي وعشنا في الخيالات. يتكون القصر من عدة أجنحة وحديقة تتعدي مساحتها العشرة فدادين مزروع بها أشجار الزيتون واللارنج والسرو إضافة لشجيرات الورد البلدي بألوانه الزاهية والتي أضافت عبقاً مميزاً بالجو ونافورتين كبيرتين تتوسطان الحديقة بخرير المياه الجاذبة للعصافير بأصواتها المنغمة، الغريب وجود حظيرة للدجاج تحوي العديد منها وبحرص البرنس علي زيارتها بين حين وآخر، وسرعان ما قدم لنا العم جعفر القهوة الفرنسي علي صينية من الفضة وأكواب مطعمة من الذهب، صور قديمة في أطر ذهبية متناثرة يمينا ويسارا مدون عليها أسماء ذويها وشجرة عائلة شركس باشا. بعد مرور عدة دقائق جاء البرنس نجيب شركس، للترحيب بنا مرتدياً ملابس حريرية وممسكاً بعصاه العاجية والتي تنم عن بأس وصلابة توارثها من أجداده المماليك يسبقه "كلبه البلدي" والذي يرتبط مع البرنس بصداقة متينة تزيد علي الخمس سنوات منذ احتضانه من أحد شوارع الجزيرة، حبا الله الأمير بجمال آسر توارثه من والدته الفرنسية ووالده الأمير "عبدالله شركس" بطل الرماية بحقبة الملك فاروق، ليبدأ الحديث عن عائلته وتاريخها الممتد لسلاطين المماليك. • حدثنا عن تاريخ عائلتك باعتبارك آخر أمراء المماليك بمصر؟ - تنتمي عائلتي إلي الشراكسة الذين هم سلاطين دولة المماليك وجدي الكبير يدعي الشريف حسن باشا شركس أوفده السلطان العثماني إلي مصر حاكما عليها بعد أن تقلد منصب صدر الدولة العثمانية وهو أرفع منصب بعد السلطان مباشرة ويطلق عليه وزير الوزراء وذلك قبل مجيء محمد علي باشا ويعد ترتيبه 111 في حكام مصر وبعد استقرار الجد الأكبر بمصر قام بتزويج أبنائه لحفيدات الأمراء المماليك ولك أن تعلم أن حسن باشا تصدي للحملة الفرنسية جنباً إلي جنب مع مراد بك مما جعل الفرنسيين يستولون علي قصره بالأزبكية عقابا له وكوسيلة ضغط ليكف عن محاربتهم هو وفرقته وبعد مرور سنوات عدة وانتقال عائلتي للاستقرار في الجيزة وهجرهم ذاك القصر تم تحويله للمدرسة السنية للبنات بأمر علي باشا مبارك وزير المعارف آنذاك، ووالدي هو الأمير عبد الله شركس كان أحد النبلاء وكبار التجار ولم ينخرط يوما بمعترك الحياة السياسية وبعد ثورة 52 وتأميم الممتلكات والأراضي هاجرنا إلي فرنسا وعشت معظم سنوات عمري ولكن سيطر عليَّ الحنين للرجوع إلي مصر مرة أخري والعيش علي ضفاف النيل. كثيرون يتهمون المماليك والعثمانيين بأنهم دخلاء علي مصر ولم يساهموا في حروبها؟ - منذ اللحظة الأولي لدخول الحملة الفرنسية أرض مصر حتي أعد حسن باشا حملات كر وفر لمطاردتهم مع مراد بك والألفي بك مما جعلهم يستولون علي قصره ويحولونه إلي المجمع العلمي الفرنسي المشهور وأورد ذكره في كتبهم وخرائطهم ومنذ اللحظة التي قررت فيها بناء قصر للاستقرار به في مصر حتي اتخذته مثالاً وذلك لروعة بنائه وفخامته، ولم تكتف عائلتنا بالنضال الوطني ضد الفرنسيين فقط فعندما جاء الاحتلال الانجليزي مهاجما مصر وتصدي جيش عرابي باشا له ساندته عائلة شركس بها وكان منها أبرز العرابيين كمحمد عبد الله باشا أحد أعيان البحيرة والذي صدر ضده حكم بالسجن لتأييده تلك الحركة وتأليب الناس علي حكم الخديو توفيق إضافة إلي تبرعاتهم للجيش المصري برغم امتناع كثير من العائلات الكبري عن التبرع وليس هذا فحسب فالجد الأكبر كان هو أول من قام ببناء مصنع مصري لصناعة الزجاج بالتعاون مع المنشاوي باشا أحد كبار الملاك لمناهضة سيطرة الأجانب علي السوق واعتمد علي العمالة المصرية المدربة وكان رأس مالهم في ذاك الوقت حوالي ثلاثين ألف جنيه أي ما يعادل عدة ملايين إلا أنه لم يصمد أمام السيطرة الأجنبية مما يرسخ فكرة الهوية المصرية التي اكتسبوها علي مر السنوات. ماذا عن علاقتكم بأسرة الملك فاروق؟ - كانت هناك علاقة عابرة بين عائلتي وعائلة الملك فاروق نظراً لأن كبار العائلات كانت معروفة للقصر الملكي ويتم دعوتها بالحفلات الرسمية التي يحضرها جلالة الملك وعندما تزوج والدي من والدتي وهي سيدة فرنسية تنتمي لأنبل عائلات فرنسا حرص فاروق علي إرسال معلمة تقوم بتعليمها اللغة العربية وكان يداعبها بالحفلات الرسمية ويخاطبها بالعربية إضافة إلي أنه قام بتكريم والدي الحائز علي بطولة مصر في الرماية في الأربعينيات وقام بتسليمه الكأس وحتي أن إحدي شقيقاته أثناء سفرها لباريس وجدت أن والدي معروف هناك باعتباره بطلاً من أبطال الفروسية والرماية المعروفين. بعد عودتك من فرنسا كيف اختلف مجتمعنا المصري منذ الخمسينيات؟ - هناك الكثير من التغيرات فأتذكر عندما كنت صغيرا بالخمسينيات والستينيات كان النظام هو سيد الحياة وكانت العائلات والأسر لديها قوانين ونظم صارمة مع أبنائها فأتذكر واقعة عندما كنت طفلاً بإحدي المدارس الفرنسية وأردت الاستحواذ علي سيارة والدي مع مشاويري الخاصة والذهاب بالأتوبيس العادي كبقية زملائي إضافة لجمال الشوارع ونظافتها ورقي المنظر العام فكانت قطعة من أوروبا أما الآن فأعاني من التلوث والازدحام السكاني وازدياد في أعداد العقارات الكئيبة التي شوهت منظر القاهرة وجعلته أصم ناهيك عن تدني الذوق العام حتي في الأغنيات والأفلام الهابطة. وما قصة استقرارك بمصر وتحديدًا بجزيرة الدهب؟ - منذ هجرتنا لفرنسا وإقامتنا بها حتي داعبني الحلم للعودة مرة أخري والاستقرار بمصر علي ضفاف النيل وبرغم زواجي من فرنسية وتنقلي للعيش بين انجلتراوفرنسا بحكم عملي في مجال العلاقات الدولية حتي تحينت فرصة العودة مرة أخري والسكن بحي الزمالك وذلك في السبعينيات ولكن منذ أوائل الألفينات وبعد الازدحام السكاني فضل ساكنو الزمالك بالانتقال للعيش في الكامبوندات بالمدن الجديدة إلا أنني عاشق للنيل ففكرت في الإقامة بجزيرة الدهب وتشييد قصر علي النظام المملوكي للاستقرار به واستغرق بناؤه أكثر من عشرين عاما علي يد مصممين ومهندسين مصريين. وماذا عن علاقتك بفلاحي الجزيرة وأهلها العاديين؟ - توجد بيننا علاقة ود وألفة من نوع خاص ولقد توارثت صفة الكرم من والدي الذي كان نادراً ما يغلق بابه في وجه أحد من المحتاجين أو الزائرين إضافة لأنه عرف عنه الإسراف وكان عضوا بالجمعيات الخيرية الكبري في القرن الماضي وبعد قوانين الاصلاح الزراعي وتأميم مئات الأفدنة لم يتأثر كرمه أو عاداته في مساعدة المحتاجين والغريب أنني عندما أجوب شوارع القرية أو بقري المنصورة التي أمتلك بها بعص الأطيان أجد حنيناً من الناس لعودة الملكية مرة أخري وألقي ترحيبا مضاعفاً. ما حكاية قرار وزارة الري بهدم القصر؟ - منذ عدة شهور فوجئت بقرار من الوزارة بإزالة جزء من القصر بدعوي عدم قانونيته وتعديه علي حرم النيل بالرغم من كوني قمت بتسجيل عقود شراء الأرض قبل بناء القصر إلا أن الغريب أن القرار يتم تنفيذه حسب محضر تم تحريره في 2006 وأتعجب كيف بعد 11 سنة تتذكر الحكومة تنفيذه الآن، رغم أنني ملتزم بدفع فواتير الكهرباء والضرائب العقارية ليتم تدشين حملات موسعة شارك بها نجوم مجتمع ومثقفون لعدم إزالته لكونه تحفة معمارية وأثراً خالداً ليصدر قرار من وزارة الآثار لمعاينته لعدم هدمه أم لا؟ إضافة إلي أن وزارة الري تأكدت من صحة الأوراق وقانونية التسجيل ليلغي قرار الهدم ويظل القصر ملجئي وملاذي حتي وفاتي. ما تقييمك لرؤساء مصر الذين تولوا حكمها؟ - هاجرت إلي الخارج عندما كان عمري 14سنة بعد قوانين الاصلاح الزراعي والتأميم ووجدت الكثير من عائلتي وأقاربي ناقمين علي عبد الناصر وذلك لأنه أضر بمصالح الكثيرين منهم بحسب اعتقادهم أما السادات فكان داهية سياسية واستطاع تطويع الأمور لصالحه وكسب جولة الحرب وهناك طبع بالمصريين أنه عندما يذهب رئيس ويترك زمام الحكم ينظرون إليه نظرة فخر وتمني لو بقي في الحكم، أما مبارك فلا أستطيع تقييم الأمور ولكن أعتقد أنه رجل محارب من الطراز الأول ولكن ما أحزنني هي الحقبة التي تولي فيها الإخوان الحكم فقد كانت كئيبة للغاية والكثيرون ساورهم الخوف من تحولها لدولة دينية متطرفة فمن غير المعقول أن يمسك زمام حكم مصر رئيس لا يفقه الكلام والرئيس السيسي قادر علي إعادة الأمور إلي نصابها الصحيح.