في أواخر القرن السابع عشر وأوائل القرن الثامن عشر اضطربت أوضاع الدولة العثمانية إلى الحد الذي سمح بتعاقب ثلاثة سلاطين على العرش العثماني خلال ستة عشر عاما في الفترة من 1687: 1703، وخلال تلك الفترة تولى حكم مصر عشرون من الولاة لم يكن لهم دور يذكر؛ نظرا لتغلب سلطة أمراء المماليك في ذلك الوقت؛ ومع ذلك فإن هؤلاء الولاة لم يقصروا في استخدام ما لديهم من سلطة محدودة في النهب والسلب وجمع الأموال من كل سبيل، فكانت ترفع بحقهم الشكايات إلى الباب العالي؛ وفي ظل ارتباك الأوضاع السياسية في الأستانة كانت قرارات العزل تتوالى، ومع كل قدوم لوالٍ جديد يتعلق المصريون بأهداب الأمل في صلاح الأحوال، ولو بشكل جزئي؛ لكن آمالهم كانت تذهب أدراج الرياح بعد ان تحولت الدولة العليَّة إلى جُرحٍ ملوث لا ينز سوى الصديد. عقب تلك الحقبة ولنحو ستة عقود دانت الأمور للبكوات المماليك الذين منحوا بموجب النظام الذي وضعه السلطان سليم حكم الأقاليم؛ ليكونوا وسيلة لإحداث التوازن بين سلطة الوالي، وقوة الجند بحسبهم- أي الأمراء- يناصبون الطرفين العداء أغلب الوقت. انقسم المماليك إلى حزبين كبيرين هما القاسمية والفقارية وكانت حالة من الوفاق التام قد سادت بين الحزبين لزمن طويل، ثم تحول الأمر إلى تنافس متعقل بعيدا عن الصراع المعلن أو الوصول إلى المواجهات الدامية؛ ومع وصول حسن باشا من الأستانة واليا على مصر وكان ذلك في العقد الأول من القرن الثامن عشر تغيرت الأوضاع بوتيرة متسارعة؛ إذ اعتبر الوالي حال الوئام بين الطائفتين تهديدا مباشرا له ونذيرا باتحادهما عليه لإسقاطه؛ فعمد إلى الوقيعة بينهما بكل وسيلة حتى حدث الشقاق بينهما، وتطور الأمر إلى مواجهات دامية دامت لثمانين يوما إذ كان الفريقان يخرجان من القاهرة صباحا إلى جهة تعرف ب "قبة العزب" فيقتتلان حتى إذا جن الليل عادت الطائفتان إلى القاهرة لقضاء الليل بسلام، ثم يعاودون القتال في الصباح؛ ويشير جورجي زيدان إلى أن هذا الاقتتال لم يؤثر في الراحة العمومية مطلقا، ولم تتعطل الأعمال ولم تغلق الحوانيت والمخازن ولم يلق المصريون بالا لما يحدث لكثرة ما كانوا يعانون من مشكلات تتعلق بسوء الإدارة وتعدد الجهات المتنفذة التي تدير عمليات النهب المنظم والعشوائي تحت مسميات عديدة. الجيش الانكشاري في شوارع القاهرة انتهت الأحداث بمقتل قاسم عيواظ بك زعيم القاسمية، فأراد ذو الفقار بك الاستيلاء على منصب شيخ البلد ذلك المنصب الذي لم يكن ذا بال؛ لكنه اكتسب أهمية كبيرة بسبب تأجج الصراع بين الجند والوالي والامراء؛ لكن الوالي اختار إسماعيل بك ابن قاسم عيواظ للمنصب ظنا منه أنه سيستطيع السيطرة عليه لصغر سنه؛ لكن إسماعيل كان شديد الذكاء حكيما متعقلا، فسعى إلى عودة الوفاق بين القاسمية والفقارية، ولم يخالف الوالي بل سعى لاسترضائه؛ حتى نجح في استصدار فرمان بعزله.. أما عن حب المصريين لإسماعيل فحدث ولا حرج، فقد كان أرحم الناس بهم يسعى في إعادة الحقوق المغتصبة، ولا يقبل إكراما أو هدية.. واستمرت فترة مشيخته للبلد حوالي ستة عشر عاما كان فيها الحاكم الفعلي للبلاد، توالى فيها ظهور الولاة العثمانيين منعدمي القيمة والاثر بين تنصيب وعزل دون فعل جدير بالذكر.. وكانت النهاية المأساوية لهذا الرجل العظيم بتدبير الباشا العثماني الحاقد عليه إذ تآمر على قتله في مجلسه الذي كان يعقد صباح كل يوم للنظر في المظالم وأحوال الرعية، إذ أغرى به مملوكا من الفقارية يدعى ذو الفقار فقتله واستولى على كل ما كان له، وخاض ذو الفقارهذا حربا قصيرة ضد شركس بك زعيم الفقارية، ثم آلت له أمور المشيخة لفترة قصيرة حفلت بالصراعات التي انتهت بمقتله. تولى عثمان بك أحد قواد ذي الفقار المشيخة، فرقى عددا من قواده وصاروا بكوات فأحلهم مكان من هلك في الأحداث التي جرت بين ذي الفقار وشركس بك، وحارب عثمان بك الأحزاب والعصابات واستقر له الأمر فسار بين الناس بسيرة حسنة وهدأت الأوضاع برغم ما كان يدبره ولاة بني عثمان من مؤامرات لا هدف لها سوى إحداث القلاقل لاستثمارها من أجل تعظيم سلطتهم ونفوذهم على حساب القوى الاخرى. ويستمر الصراع على منصب شيخ البلد الذي صار أهم المناصب بين الأمراء المماليك وتظهر عصابات أخرى منهم تسعى لمزيد من السلطة والنفوذ كالكزدغلية والجلفية ثم كان أن تحالف إبراهيم كخيا ورضوان بك وانصاع لهما الوالي كيور أحمد باشا، فبدآ سلسلة من عمليات الاغتيال للبكوات انتهت باستيلائهما على السلطة، وتوافقا على تبادل منصبي مشيخة البلد وإمارة الحج، وعانت مصر في هذا العهد شتى صنوف الظلم والعسف والتحايل من أجل نهب الثروات التي بأيدي الأمراء وأعيان المصريين.. ثم كان ظهور علي بك الكبير الذي كان أحد كبار مماليك إبراهيم كخيا وهو من سعى لترقيته، فلما قتل كخيا أخذ علي بك عهدا على نفسه للانتقام لسيده، فجمع مماليك كثر كون بهم جيشا وهادن الأمراء وتقرب إليهم حتى ولي مشيخة البلد، فلما أراد استصدار أمر بإعدام قاتل سيده إبراهيم بك الشركسي هاج عليه الأمراء مما اضطره للفرار إلى بيت المقدس ثم إلى عكا واستطاع الشيخ ضاهر العمر أن يحصل له على عفو سلطاني بعد أن أمر السلطان بمثوله أمامه لمحاكمته، وكان صديق علي بك المدعو محمد راغب باشا الذي كان واليا على مصر وعزل، قد وصل إلى منصب الصدر الأعظم فصار داعما ومساندا لعلي بك؛ فاستتب له الأمر لبعض الوقت بعد أن حاربت قواته بقيادة أحمد بك الذي سيلقب بعد ذلك بالجزار، وسيتولى حكم عكا التي ستصمد تحت قيادته أمام حصار نابليون- العربان واستأصلت شأفتهم. علي بك الكبير بصحبة محمد أبو الدهب الذي خانه وتآمر عليه قام علي بك بعد ذلك بترقية ثمانية عشر من مماليكه إلى رتبة بك منهم إبراهيم بك ومراد اللذان سيتأجج الصراع بينهما على السلطة قبيل الاحتلال الفرنسي لمصر، ومن هؤلاء أيضا محمد بك الملقب بأبي الذهب.. سعى علي بك الكبير إلى الاستقلال بحكم مصر بعد اكتشافه تآمر الباب العالي والباشا في مصر عليه، فأمر الباشا بمغادرة مصر خلال ثمانية وأربعين ساعة، وأعلن استقلال مصر عن الدولة العثمانية مستعينا بالشيخ ضاهر العمر والي عكا حليفه الذي رد الجند العثماني القادم من سوريا لإجهاض محاولة علي بك للاستقلال، وبعودة القوات العثمانية مدحورة انصرفت الدولة العلية بالكلية عن الاهتمام بالشأن السوري والمصري إلى حين، مما سمح لعلي بك بإطلاق يده في الإصلاح وإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بعد عهود طويلة من الظلم والعنف والفوضى. الشيخ ضاهر العمر والي عكا وحليف علي بك الكبير استطاعت الأجهزة السرية في الدولة العثمانية تجنيد محمد بك ابو الدهب فانقلب على ولي نعمته الذي رباه ورعاه وزوجه ابنته، وقاد ابو الدهب قوات من العثمانيين والمماليك والعربان وغيرهم من ناحية الجنوب، واحتل اسيوط في طريقه إلى القاهرة التي وصلها بعد مغادرة علي بك إلى عكا، وهناك تحالف علي بك مع الروس الذين أرادوا تزويده بقوة تابعة لهم من الألبان قوامها ثلاثة آلاف مقاتل، واستطاع علي بك جمع قواته والعودة لقتال قوات محمد بك أبو الدهب، واستطاع تحقيق الانتصار قرب غزة، لك وتيرة الأحداث تسارعت واستخدم أبو الدهب الدعاية الدينية ضد سيده مدعيا أنه تحالف مع الكفار- يقصد الروس- لمحاربة جماعة من المسلمين، وانتهت الأحداث بمقتل علي بك الكبير وتولى محمد بك أبو الدهب مشيخة البلد، وحصل على لقب باشا وإذن من السلطان باجتياح الأراضي الشامية لتأديب كل من ناصر علي بك الكبير، ثم انتهى مقتولا في خيمته بعد دخوله عكا.. وعادت مصر إلى السيادة الاسمية للدولة العلية مع استمرار الصراع بين الأمراء المماليك حتى كانت نهاية القرن الثامن عشر ودخول الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت إلى مصر إيذانا بنهاية فترة سوداء من تاريخ مصر عزلت فيها عن العالم بعد أن صارت مسرحا لأحداث لا تنتهي من العنف والاقتتال والنهب والسلب، في سبيل ملء خزائن دولة الخلافة الإسلامية بالذهب الملطخ بدموع المصريين ودمائهم.