تونس الليل ..الفيلم العربي الوحيد الذي ينافس علي الهرم الذهبي من ضمن 14 فيلما تشارك في المسابقة بعد خروج مصر من مولد المهرجان، هو عمل سينمائي جديد يبحث في تفاصيل تدهور العلاقات الإنسانية في المجتمع الراهن بإمضاء المخرج إلياس بكار ..الفيلم مناسبة لإعادة طرح العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة التونسية، والبحث عن النموذج الاجتماعي الذي يتماشي مع واقع تونس بعد ثورة 2011، حيث عادت الأسئلة من جديد حول علاقة السينما بالواقع، وهل تنقل السينما الواقع، أم أنها تفتح أبواباً موصدة أمام المتفرج، وتسعي إلي تغيير واقعه الاجتماعي ونظرته الذاتية للواقع. »تونس الليل» أو »Tunis By Night» هو رابع أفلام المخرج التونسي إلياس بكار، بين طويل وقصير، والذي تدور جميع أحداثه في 48 ساعة. و»تونس الليل» ويقدم البطل، في الفيلم، برنامجا ثقافيا عن الأدب والشعر، غير أن خبر إقدام محمد البوعزيزي علي إحراق نفسه في ديسمبر 2010، قلب حياته المهنية رأسا علي عقب، ليجد نفسه في مواجهة سياسة الإذاعة التي أرادت التعتيم عن الخبر، والتّحدث عن إنجازات الرئيس حينها زين العابدين بن علي، ويرصد المخرج حالة المثقف التونسي مع اندلاع الشّرارة الأولي للثورة التونسية في 17 ديسمبر 2010، وانعدام حرية التعبير، ما جعله يدخل في حالة من الحيرة والضياع تتسبب في تشرد عائلته، وبدور البطولة في هذا الفيلم، يعود رؤوف بن عمر إلي السينما بعد غياب 10 سنوات. وأراد يوسف من خلال حلقته الأخيرة من برنامجه الذي جاوز الربع قرن من البث، وهو الذي سيحال ليلتها علي التقاعد الوجوبي، أن يتطرق إلي حادثة الشاب الذي قام بحرق جسده في مدينة سيدي بوزيد (وسط تونس)، إلاّ أن مديره الذي تقمص دوره الممثل المنصف الأزعر، يمنعه من الإشارة إلي الحادثة ويقطع بث برنامجه، وبمجرد خروج يوسف من مقر الإذاعة ليلا يتم إيقافه وإحالته علي التحقيق الأمني. بين ليلة 17 ديسمبر واليوم الذي يليها، تتغير حياة يوسف الذي يكتشف أنه أب عاش لنفسه ونرجسيته المهنية وهو الإعلامي اللامع، فعائلته متشرذمة كحال الوطن أيامها، ابن بكر »أمين» (قام بالدور حلمي الدريدي) عاد مطرودا من أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وهو الذي له ميولات أيديولوجية إسلامية تتضح من خلال حديثه مع شقيقته الصغري »عزيزة»، والتي أدت دورها ببراعة أميرة الشبلي، حيث كان يلومها علي صعلكتها ومجونها، وهي الفتاة السكيرة والمتمرّدة علي الأعراف والتقاليد والعاشقة للموسيقي الصاخبة. أما الأم »أمل» التي أدت دورها بارتباك آمال الهذيلي، العائدة إلي الشاشة الكبيرة بعد طول انقطاع، فتجد في صلاتها وحجابها ملاذا لها ووقاية من مرضها العضال، فأهملت زوجها وخابت في العناية ببيتها وتربية نجليها. الفيلم يطرح قضية المثقف ومدي اغترابه وغربته في وطنه بين واجبه المهني الذي يتطلب التعبير عن هموم الناس وحرقة البلد وبين إملاءات الصمت في زمن الجمر، لكن بكار مرّ مرور الكرام في »تونس الليل» علي هذا الطرح الإشكالي الهام، فرأينا الليل بكباريهاته وحاناته ومعاركه الليلية الجانبية، ولم نر تونس الشارع المحترق ليلة 17 ديسمبر والتي تليها. إلياس بكار أسهب في تصوير مشاهد العلب الليلية والسهرات الخاصة والحانات المكتظة بالزجاجات دون التوغل كثيرا في الاختلاجات، ما يحسب لإلياس بكار في فيلمه الروائي الثاني، تمكنه من إعادة نجمة سينمائية تونسية متفردة إلي عالم الأضواء، وهي التي اختارت الاعتزال بعد أن تحجبت، ونعني هنا آمال الهذيلي التي أبدعت في »صمت القصور» لمفيدة التلاتلي و»بنت فاميليا» لنوري بوزيد و»صيف حلق الوادي» لفريد بوغدير وغيرها من الأفلام التونسية الفارقة، لكنّها بدت في فيلم »تونس الليل» وكأنها تتلمّس طريق عودتها، فشاهدنا آمال الهذيلي التي أملت شروط مشاركتها في الفيلم علي المخرج فجسدت دورها وهي بالحجاب، ولم نر إدارة بارعة للممثل من قبل بكار وفق ما تقتضيه صدقية المشاهد، وإلا كيف نفسر ظهور أم تتحرك بين أهلها وذويها وهي بالحجاب؟ ورغم هذه السقطات حفل الفيلم بمشاهد مميزة كالحوار الثلاثي بين أمين الابن ورجليْ الأمن، أو مشهد التداعي الحر ليوسف في برنامجه الإذاعي الأخير، كما أتت بعض المشاهد في شكل كتابة مسرحية أكثر منها كتابة سينمائية، وهو ما جعل إيقاع الفيلم بطيئا في جزء كبير منه. حاول إلياس بكار في فيلمه الذي امتد زهاء الساعة ونصف الساعة، أن يرسم بكاميرا ناقلة وناقدة لليلتين ساخنتين من ليالي تونس 2010، وما مرت به البلاد والعباد من تناقضات صارخة بين مُبال وغير مُهتم، وبين متحفظ ومُتحفّز، وبين عابث وآخر يتحضر للانقضاض علي شرارة الثورة والثروة، لكنه أطنب في تصوير مشاهد العلب الليلية والسهرات الخاصة والحانات المكتظّة بالزجاجات دون التوغّل كثيرا في الاختلاجات، فأتت بعض المشاهد في الفيلم مستنسخة من الفيلم المغربي »الزين إلي فيك» لنبيل عيّوش وأخري نسخة طبق الأصل من فيلم »علي حلّة عيني» للمخرجة التونسية ليلي بوزيد، وبين هذا وذاك حضرت المدينة العربية كالعادة، والهلع من الختان كما هي عادة كل فيلم تونسي بدعم فرنسي! وفي نقدها لهذا الفيلم، قالت نجوي الحيدري، الناقدة السينمائية التونسية، إن قصة فيلم تونس الليل مشوقة وقريبة من الواقع التونسي، ولكن تنقصها الحبكة الدرامية، كما أن سيناريو الفيلم »ضعيف، ولم يبرز مأساة ومعاناة الشخصيات الرئيسية، علي الرغم من حدة أوضاعهم النفسية والاجتماعية»، علي حد تعبيرها. وفي المحصلة يمكن الانتهاء إلي أن فيلم »تونس الليل» كان بإمكانه أن يكون فيلما مهما كتابة وطرحا، لو أنه خرج إلي القاعات قبل أحداث يناير 2011، كشأن فيلم »آخر فيلم» للنوري بوزيد (2006) أو الفيلم المصري »حين ميسرة» لخالد يوسف (2007) اللذين استشرفا بطريقة أو بأخري أحداث الربيع العربي، أما أن يقول بكار ما قاله الآن، بعد أن قالت الشعوب كلمتها، فقد قتل ريادة المثقف من حيث لا يدري، وهو الذي أراد لفيلمه الانتصار له. ودفاعاً عن الفيلم، قال المخرج إلياس بكار، إن عمله السينمائي يعكس وجه تونس بعد الثورة، وهو علي حد قوله: »فيلم روائي يطرح أسئلة وجودية لها علاقة بما يعيشه التونسيون اليوم»، وأكد أن التونسيين لم يعودوا يعرفون أنفسهم ولا بلادهم، فأفراد العائلة يعيشون مع بعضهم تحت سقف واحد، ولكنهم لا يعرفون بعضهم بعضاً حق المعرفة. بكار قال إن تصوير الفيلم »انطلق في ظروف صعبة، بالتزامن مع فرض حظر التجوال في تونس علي خلفية استهداف حافلة للأمن الرئاسي بالعاصمة في 24 نوفمبر 2015، وتابع فيلم »تونس الليل»، يمثل نقطة انتقال في مسيرتي المهنية، باعتباره ثاني أعمالي السينمائية، كما أنه سيضيف الكثير لتاريخ السينما في تونس». وإلياس بكار، خريج معهد السينما بفرنسا، وله العديد من الأفلام القصيرة والمسرحيات والأفلام الوثائقية، كما أخرج فيلما روائيا طويلا »هو وهي»، واثنين من الأفلام الوثائقية، وهما »أنا تونسية» و»كلمة حمراء».. »وتونس الليل» هو فيلم روائي استغرق تصويره عامين (منذ 2015)، ويقوم بدور البطولة فيه كل من رؤوف بن عمر، وآمال الهذيلي، وأميرة الشبلي، وحلمي الدريدي.