تتلاحق الأحداث سريعة متوترة لتدفعنا دائما لمزيد من القلق والشك والتوجس.. لا نكاد نلتقط أنفاسنا منذ تنحي مبارك.. فمن دوامة نخرج منها حتي تتلقفنا دوامة أخري لاتقل عنها قوة.. من جدل عقيم ندخله رغما عنا لنفاجأ بمتاهة وطرق ملتوية وعرة يصعب فيها التثبت من مواضع أقدامنا .. ضبابية تلف المشهد فلا نتبين تفاصيله ولا ما وراءه.. شهور ثمانية عجاف مرهقة ومحبطة ومستفزة.. مرت ثقيلة لتلقي بنا أمام وضع لايقل عنها ثقلا ولا غموضا ولا اضطرابا. لم نكد نفق من قرارات وقوانين المجلس العسكري المتلاحقة والتي تأتي دائما بشكل فوقي يتنافي تماما مع ديمقراطية طالما حلمنا بها وكانت أول مطالبنا وحلمنا في نظام جديد. لم يرو المجلس العسكري ظمأنا بقراراته وقوانينه التي تصب غالبا فيما هو مضاد للثورة وعكس ما يراه الثوار. لم نكد نفيق من صدمة أحد هذه القوانين حي يصفعنا آخر لينتهي بنا إلي عتبة انتخابات برلمانية من المفترض أن تسفر عن تكوين »برلمان الثورة« والذي من المفترض أن يتصدر الطريق إليه وجوه ثورية نزيهة وطنية مخلصة.. لكن للأسف توارت هذه الوجوه أمام حشود الفلول التي احتلت ببجاحة تحسد عليها المشهد.. تتسابق لتسجيل أسمائها.. وتتوعد بمن يحاول المساس بها أو إصدار قانون يحاسب مفسديها علي جرائمهم ويفرض عليهم العزل الإجباري لمدة خمس سنوات حتي نضمن نقاء الأجواء من فسادهم وتلوثهم وسمومهم. إلا أن هؤلاء لم يكتفوا فقط بتغيير جلودهم والتخفي وراء أحزاب جديدة لكنهم أيضا تسللوا إلي أحزاب قديمة ونجحوا في بث الخلافات بينها وبين متغاض عن وجودهم ورافض بحسم لتسللهم البغيض الأمر الذي حال دون نجاح معظم هذه الأحزاب في الانتهاء من إعداد قوائمها لينتهي الأمر بمد الفترة المحددة لتقديم طلبات الترشيح أسبوعا وسط مخاوف أن تمتد لأسابيع أخري لايعلم أحد مداها. هذه الأجواء المضطربة تنبئ بالطبع بانتخابات عاصفة من المؤكد أنها لن تمر بسهولة وإن كان الأمل مازال يرادونا أن ننجح في تجاوزها بأقل الخسائر الممكنة. لكن وبفرض اجتيازنا عقبة الانتخابات وسلمنا الله من شرورها ورشاويها وبلطجيتها وفلولها سيكون أمامنا عقبة أخري وهي صياغة الدستور وبعدها ندخل ماراثون الانتخابات الرئاسية التي لن تقل صعوبة خاصة إذا ما نجح الفلول في لم شملهم وحصد نسبة كبيرة من مقاعد البرلمان قد يشجعهم لترشيح ممثل لهم في الانتخابات الرئاسية فلم يعد هناك ما يعوق أي حلم من أحلامهم العبثية بعدما بان للجميع أن الثورة بالفعل في خطر وأن محاولات إجهاضها ووأدها لا تتوقف وأظنها لن تتوقف. لايخفي علي أحد مدي الاستقواء الذي ظهرت عليه عناصر القوي المضادة وأبرز مظاهرها تحرك الفلول المنظم والخطير والذي تكشف بوضوح مدي قدرته ومهارته في التحول وركوب الموجة واللعب علي كل الحبال وتغيير لغة الخطاب لتناسب المرحلة الجديدة.. فنجدهم يشيدون بالثورة ويتمسحون بأذيال الثوار ويختلقون الأكاذيب عن بطولات وهمية عن محاربتهم للفساد ووقوفهم في وجه المفسدين. ليس هذا فقط بل وصل تبجحهم لتقليد خطاب القوي الإسلامية بعدما لاحظوا ارتفاع أسهمها أو ربما ظنوا أنهم المرشحون لقيادة المرحلة القادمة حتي وإن اختلف الكثيرون علي ذلك فوصل الأمر لدرجة تصريح أحد قادة أحزاب الفلول الجديدة شارحا لبرنامج حزبه مؤكدا قيامه علي مرجعية دينية إسلامية ومسيحية!! هكذا نجد الفلول وقد ارتدوا ثياب الحكمة والوعظ والتدين الشكلي فقط وكأن القناع يمكن أن يغطي قبح وجوههم ودمامة تصرفاتهم واهتراء مواقفهم. أمام هذه التحركات المشبوهة والمريبة كان من الضروري من وقفة تصد حجافل الفلول وتكشف انتهازيتها وبجاحتها إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث بل العكس هو ماقد صار بعدما صم القائمون علي أمور البلاد آذانهم وغطوا أعينهم ولم يتخذوا خطوات جادة لإصدار قانون الغدر أو العزل السياسي واكتفوا بالتلويح بقانون الإفساد السياسي والذي يعلم الله وحده مدي صدق النيات في إصداره ويعلم الفقهاء وحدهم مدي إمكانية تطبيقه وهل يمكن أن يتم ذلك بأثر رجعي أم يتحول القانون لمجرد ذر للرماد في العيون. وتبرير واه يكشف خبث النوايا أكثر ما يثبت صدقها. ويتحول لمجرد وسيلة لامتصاص ثورة غضب بدت ملامحها وإرهاصاتها واضحة خاصة بعد أحداث ماسبيرو. وسط هذه الأجواء نكون أمام واحد من سيناريوهين محتملين لاثالث لهما .. الأول أن تستمر الأوضاع تسير من سيئ إلي أسوأ ويأتي برلمان لا حول له ولا قوة ولا يعبر عن الثورة بل هو أقرب لبرلمان ثورة مضادة ويتم تشكيل حكومة علي نفس شاكلته ولامكان هنا للحديث عن دستور قوي وينتهي الأمر إلي يقين يصل إليه الجميع بأن الثورة لم تقم بعد وأننا في حاجة لثورة أخري لكن بالطبع لن تكون سلمية وهو ما يخشاه الجميع. أما السيناريو الثاني وإن كنا لايحدونا كثير من الأمل لحدوثه وربما يعترضه كثير من العقبات إلا أنه يظل الخيار الأفضل مقارنة بسيناريو الغضب الثوري.. وتحقيقه مرهون بالطبع بقدرة القوي السياسية وإرادتها في اجتياز المرحلة الانتقالية بسلام والتكاتل من أجل تحقيق مصلحة الوطن والاتفاق علي الالتزام بالمبادئ الثورية وإجبار أولي الأمر علي تحقيق تلك المطالب. والتصدي بقوة أمام الفلول وإزاحتهم من المشهد وإنجاح الانتخابات وتشكيل حكومة قوية وصياغة دستور ثم إجراء انتخابات رئاسية.. ربما لاتتم كل هذه الخطوات علي النحو المأمول إلا أنها يمكن أن تكون بداية قوية لو خلصت النوايا ومن أخطائها يمكن تدارك تكرارها ومن ثم نخطو بخطوات قد تبدو بطيئة لكنها صحية نحو التحول الديمقراطي. هو سيناريو أشبه بالحلم يبدو كبريق خافت في النفق المظلم لكننا لانملك سوي التعلق به لعلنا نصل بثورتنا إلي بر الأمان.