مع سيل الفتاوي التي تسيء إلي الدين الإسلامي أكثر ما تفيده، التي أثارت الكثير من ردود الفعل الغاضبة، بسبب خروجها عن المألوف الديني ومخاصمتها للعقل، مثل نوعية فتاوي من يزعم أن اسم فرعون الخروج "وليد" مرورا بمن يجيز مناكحة الأموات والبهائم، بدا أن المجتمع المصري في حاجة إلي وقفة جادة لوقف سيل الفتاوي غير المنضبطة، إذ بدأت الأصوات تتعالي للمطالبة بقانون يوقف هذه الفتاوي الغريبة وأصحابها ويقنِّن عملية الإفتاء وقصرها علي الجهات المعنية، ومنع فتاوي الهواء التي تثير الكثير من المشاكل. سيطرت حالة من الصدمة علي المواطنين مع خروج عدة فتاوي شاذة تعارض المنطق والفهم السليم للدين، خلال الأسابيع الماضية، تعد امتدادا لظاهرة مستمرة منذ عدة أعوام، مع انتشار القنوات الفضائية التي خصصت برامج للفتاوي علي الهواء مباشرة، أوقعت عددا من رجال الدين في مأزق الارتجال والاستناد إلي أفكار عفي عليها الزمن، إذ أفتي الدكتور صبري عبد الرؤوف، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، بإجازة معاشرة الزوج لزوجته المتوفاة، معاشرة الوداع، فيما رددت الدكتورة سعاد صالح، أستاذة الفقه المقارن بالأزهر، فتاوي شاذة قديمة بمعاشرة البهائم. وفيما أفتي سامح عبد الحميد، الداعية السلفي، بأن تحية العلم في المدارس حرام، قال الدكتور سعد الدين هلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن فرعون موسي، من أهل خراسان بشمالي غرب إيران، وأن اسمه هو الوليد بن ريان أو مصعب بن الوليد، ضاربا بعلم المصريات عرض الحائط، متمسكا برواية الإسرائيليات التي لا يعتد بها في كتب الفقه القديمة، كما تم منع الشيخ سالم عبد الجليل من الظهور الإعلامي بعد تكفيره للمسيحيين وتوجيه تهمة ازدراء الأديان له. الفتاوي الشاذة التي باتت تطارد المصريين عبر الشاشات التليفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، دفعت أكثر من صوت داخل مؤسسة الأزهر الشريف، والبرلمان، للدعوة صراحة بضرورة وقف فوضي الفتاوي، والعمل علي حصر الفتوي في الجهات المسؤولة، مع وضع ضوابط للفتوي بعيدا عن التعامل المستهتر مع مكانة الفتوي. الإمام الأكبر، الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، دخل علي خط الأزمة بقوة، وقال في بيان رسمي: إن علماء الأمة وضعوا للفتوي ضوابط وقواعد وآدابًا، وأوجبوا علي المفتِين مراعاتها عند القيام بالنظر في النوازل والمستجدات، رعاية لمقام الفتوي العالي من الشريعة، وإحاطة له بسياج الحماية من عبث الجهلة والأدعياء". وأكد الإمام الأكبر أنه لا ينبغي لمن يتصدي للإفتاء - تحت ضغط الواقع - أن يضحي بالثوابت والمسلمات، أو يتنازل عن الأصول والقطعيات بالتماس التخريجات والتأويلات التي لا تشهد لها أصول الشريعة ومقاصدها، مضيفًا أن الرخص الشرعية الثابتة بالقرآن والسنة لا بأس من العمل بها لقول النبي صلي الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتي عزائمه"، ولكن تتبع رخص المذاهب واعتماد الفتاوي الشاذة منهج خاطئ، يتنزه عنه العالم الثبت والمفتي المتمكن. وشدّد الطيب علي أن الفقهاء قالوا بوجوب الحجر علي السفيه الذي يبدد ماله ولا يصرفه في مساراته الصحيحة، وكذلك الحال بالنسبة لمدعي الإفتاء يجب الحجر عليه، لأنه مستهين بالعلم، متبع للهوي، غير ملتزم بما ورد في القرآن الكريم وفي السنة النبوية وبما أجمع عليه المسلمون، ولم يراعِ أصول الاستنباط السليم، وأشار إلي أن الهيئات المخولة بتبليغ الأحكام للناس هي هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث الإسلامية، ودار الإفتاء ومركز الأزهر العالمي للفتوي الإلكترونية. بدوره أكد الدكتور محمد الشحات الجندي، عضو مجمع البحوث الإسلامية، ل "آخرساعة"، أن الفتاوي الشاذة التي طفحت علي السطح مؤخرا أدت إلي حيرة الناس وبلبلة أفكارهم وتشويه معرفتهم بالدين، وأضاف: "هناك الكثير من المخالفات في هذه الفتاوي التي تحل حراما وتحرم حلالا، وهي أمور عبثية يجب التصدي لها بكل حزم، لأن الكثير من هذه الفتاوي يتعارض مع صحيح الشرع الإسلامي، في عصر نجد فيه من يتربص بالإسلام، فيتم استغلال مثل هذه الفتاوي الشاذة، لزيادة الإسلاموفوبيا في الغرب وتصوير الإسلام علي أنه دين يخاصم الحضارة والمدنية، وهو أمر غير صحيح لكن بعض المسلمين للأسف خدموا هذا التوجه بمثل فتاوي تحريم أن يقول الشاب لخطيبته: أنا أحبك، أو فتوي نكاح الموتي". وتابع الجندي: "للأسف في وقت تعبر مصر مرحلة حاسمة من تاريخها وننشغل ببناء الوطن نجد البعض يتحدث في أمور تافهة لا تهم أحدا، وتصدر فتاوي في قضايا لا تقدم ولا تؤخر، بل تعكس خللا في فهم الدين، فقد أفرزت واقعا كئيبا له في مخيلة الناس، لذا لا بد من وقفة قبل المنحدر مع هذه الفوضي، والعمل علي وضع ضوابط للتصدي إلي الإفتاء"، داعيا إلي التخلص من فكرة الفتوي الفردية مهما كان علم الفرد، لصالح الاعتماد علي الفتوي الجماعية المؤسسية القائمة علي تداول الآراء بين عدد من علماء الدين المؤهلين للفتوي بعد استطلاع رأي أصحاب الاختصاص، فالقضايا الطبية يعود فيها أهل الفتوي إلي الأطباء المتخصصين مثلا". من جهته، ذهب الشيخ عبد الحميد الأطرش، رئيس لجنة الفتوي الأسبق بالأزهر الشريف، إلي أن الفتاوي باتت لا صاحب لها ولا رقيب عليها، وتصدي لها من لا يحسن الفتوي، فجاء بعكس ما تذهب إليه الشريعة الإسلامية، مضيفا ل "آخر ساعة": "الإسلام دين يسر وسماحة، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم (ادرؤوا الحدود بالشبهات)، أي أن الفتوي تحتاج إلي علم دقيق لتبسيط الدين والبحث عن أن أيسر الحلول التي تقدمها الشريعة السمحاء، فقوام الفتوي التيسير علي الناس لا تعقيد حياتهم"، داعيا إلي تقنين الفتوي علي الملأ وقصرها علي المتخصصين فقط. في غضون ذلك، بدأ البرلمان في التحرك بالتناغم مع موقف الأزهر، إذ يبدأ مجلس النواب خلال دور الانعقاد الثالث الذي بدأ الاثنين الماضي، في مناقشة مشروع قانون تنظيم الفتوي العامة، الذي وافقت عليه لجنة الشؤون الدينية بالمجلس، بعد عرضه علي الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية، وقال مقدم المشروع الدكتور عمر حمروش، أمين سر اللجنة الدينية بالبرلمان، ل "آخر ساعة"، إن الأولوية لمناقشة القانون فور انطلاق دور الانعقاد الثالث، متوقعا أن يتم بدء مناقشة القانون خلال أسابيع قليلة. وينص مشروع القانون علي أنه "يحظر بأية صورة التصدي للفتوي العامة إلا إذا كانت صادرة من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، أو دار الإفتاء المصرية، أو مجمع البحوث الإسلامية، أو الإدارة العامة للفتوي بوزارة الأوقاف، ومن هو مرخص له بذلك من الجهات المذكورة، ووفقا للإجراءات التي تحددها اللائحة التنفيذية لهذا القانون". ويقصر مشروع القانون الفتوي العامة عبر وسائل الإعلام للمؤسسة الدينية في مصر، وأن من يتصدي للفتوي دون إذنها يتعرض لعقوبة "الحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر وغرامة لا تزيد عن خمسة آلاف جنيه، أو بإحدي هاتين العقوبتين، وفي حالة العودة تكون العقوبة هي الحبس وغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه". وشدد حمروش علي أن مشروع القانون لن يأخذ الكثير من الجلسات في البرلمان إذ إنه محل توافق من قبل اللجان المختصة تحت القبة، التي عقدت جلسات عمل مع ممثلين من الأزهر والأوقاف والإفتاء، وتم الحصول علي موافقة هذه المؤسسات جميعا، وأضاف: "الجميع شاهد سيل الفتاوي الشاذة عبر وسائل الإعلام التي لا أساس لها من الصحة وتسببت في بلبلة الشارع في وقت تواجه الدولة مخاطر متعددة وتسعي للمضي قدما في مشروعات التنمية، وأتوقع أن ينهي القانون عقب إصداره علي هذه الفوضي في الفتاوي بعد قصرها علي الجهات المختصة وتغليظ العقوبة للمخالفين".