مثلما تشق المئذنة عنان السماء لترسم أبهي صورة للشموخ، فإن القبة أيضا تتجه للأرض لتجسد بدورها صورة أخري للتواضع، بهذين الرمزين ارتبطت المساجد الإسلامية في كافة بقاع الأرض. تميزت العمارة الإسلامية بالتنوع الشديد سواء كانت مدنية أو حربية، أو دينية، وهو ما منحها الشخصية المعمارية الفريدة التي تلتزم بالعقيدة والتي ظهرت بوضوح في مفردات العمارة في مختلف العصور والبلاد، وظهر ذلك جليا في الخامات المستخدمة التي تنوعت من بلد لآخر. وإذا رصدنا مفردات العمارة المميزة للفن الإسلامي كالمسجد بأجزائه المتنوعة كالصحن والرواق والمنبر والمحراب والمئذنة والمقرنص والسنج المعشقة سنجد أن القبة أكثر ارتباطا بالفن الإسلامي، وليس دالا علي ذلك أكثر من المثل القائل تحت القبة شيخ! ومع ذلك فهناك قباب أقيمت ولم يدفن تحتها صاحبها مثل قبة السلطان حسن الذي شيدت قبته ولم يدفن تحتها. وحسب تعريف د. أشرف العتباني أستاذ تاريخ الفن الإسلامي بجامعة عين شمس فإن القبة عبارة عن بناء نصف كروي بقاعدة دائرية مقامة علي قاعدة مربعة وإن اختلف تصميم القبة، فتارة نجدها طويلة مثل قبة يونس الدويدار أو منخفضة مثل قبة الحافظ بالأزهر أو قبة الحراسة في دار الأنبا سمعان. ويقول: وجدت القبة في الفن القبطي وخاصة في الكاتدرائيات المقامة علي شكل الصليب بأنواعه سواء كان إغريقيا أو رومانيا، فنقطة التقاطع غالبا ما تكون علي شكل قبة. أما بالنسبة للخامات التي تستخدم في صناعة القباب فهي إما أن تكون من الأخشاب كقبتي الصخرة في القدس والإمام الشافعي في مصر أو من الحجر كقبة الغوري وقبة الخانقاه برقوق والأقمر في شارع المعز، وأحيانا تقام من الطوب أو الأراميد؛ لذا نجد القباب الحجرية صغيرة الحجم لثقل الوزن، فضلا عن القباب الحديثة والتي دخل في خاماتها المعدن والصبة المسلحة، وأخيرا قباب مصنوعة من الزجاج والفايبر جلاس وتمتاز بخفة الوزن وتسمح بنفاذ الضوء. ويضيف: من حيث الشكل نجد القباب الكروية والهرمية والمخروطية والبصلية والقباب المفصصة، وهناك قباب متحركة كما في المسجد النبوي. وتتكون القبة من أجزاء، فالمقرنصات تنقل القاعدة من الشكل المربع إلي الدائري ثم الرقبة التي يوجد بها نوافذ للتهوية والإضاءة وجسم القبة بشكلها النهائي الذي يعلوه هلال يشير دائما إلي اتجاه القبلة. والقبة في البدايات لم تكن تكسوها زخارف داخلية أو خارجية ومع جماليات الفن الإسلامي تم تزينها من الداخل والخارج بالأشكال الهندسية والزخارف النباتية والحروفية. وتدل هذه الزخارف علي الوعي الجمالي والفني والفلسفي للمعماري المسلم حيث تحتاج إلي مقاييس ومعايير هندسية تتزايد وتتناقص بانتظام وتناغم وتكامل ملحوظ مما جعل بعض القباب مثل قبة مشهد السيدة رقية في العصر الفاطمي من الخارج والداخل وقبة السيدة عاتكة من الداخل أما قبة سعد الدين البجاوي فزخرفت بزراميق تشبه الشرافات من الخارج. وحديثا ظهرت بعض الملامح لجوهر فكرة بناء القبة، حيث انتقلت فكرة البناء من هيئة نصف كرة، إلي بناء علي هيئة نصف القطع الناقص كما نراها في قبة مسجد الشرطة الذي لا يحتوي علي قاعدة دائرة تشبه نصف ثمرة المانجو. قبة الصخرة.. رمز الصمود مباركة هي الصخرة، طاف بها الأنبياء وفتح من عندها باب السماء، لمعراج خاتم الأنبياء وخير البشر، فحلت عليها النعمة الإلهية، وأنارتها أنوار النبوة، فكانت من الرموز المقدسة لدي المسلمين جميعاً، يحيط بها المسجد الأقصي، أولي القبلتين وثالث المساجد المقدسة في الإسلام، كانت ولا تزال الرمز الذي يتعلق به المسلمون من مشارق الأرض ومغاربها، لا تنفصل علاقتهم بها رغم الاحتلال الصهيوني الذي يضرب حصاراً عليها، لكنها تظل كما هي، صخرة يتحطم عليها كيد المعتدي، وترمز إلي صمود لا يعرف الانكسار. من يتجول في كتب التاريخ يعرف يقينا أن قبة الصخرة تأبي علي الركوع، فهي محفوفة برعاية إلهية، زادتها القبة الأموية بهاء وجلالاً، فالقبة التي تعود إلي العصر الأموي جعلت من قبة الصخرة تحفة معمارية تشد الأنظار، وتخطف الأبصار، تعلقت بها قلوب المسلمين، يحصل من يطوف بها علي راحة وسكينة لا يجدهما فيما حولها. ظلت الصخرة مقدسة علي مر الأيام، فكانت قبلة أنبياء اليهود في الأيام الغابرة، ومع الإسلام اكتسبت عظمة ومجداً، بعدما صعد منها البراق وعليه سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم إلي السماء حيث الحضرة الإلهية، عند سدرة المنتهي عندما رأي النبي ما رأي، وألقي الله سبحانه عليه من فضله ما شاء، وجري بينهما ما لم يخطر علي بال بشر، فكانت الصخرة مقدسة لسابق الاختيار الرباني لها لتكون منطلقا لرحلة لم ولن تحدث إلا مرة واحدة في تاريخ البشر. وتأخذ الصخرة شكلا غير منتظم وطولها من الشمال علي الجنوب يقدر ب 17.7 متر، ومن الشرق إلي الغرب ب 13.5 متر، وترتفع عما حولها بحوال 1.5 متر، ولا يميزها عما حولها أمر خارق، لكنها البركة الإلهية التي حلت عليها فجعلتها مقدسة في الأديان الإبراهيمية الثلاثة. وتولي خلفاء المسلمين وسلاطينهم رعاية القبة في إطار اهتمامهم بالمسجد الأقصي ككل، وأجري الخلفاء الفاطميون ترميمات واسعة علي القبة في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، لكن بعدها بقليل سقطت القدس تحت الاحتلال الصليبي، فخرجت قبة الصخرة من يد المسلمين للمرة الأولي في التاريخ، وحولها الصليبيون إلي كنسية باسم "أقدس المقدسات" أو "معبد الرب"، وتم إقامة مذبح فوق الصخرة. ولم تعد الصخرة إلي الإسلام إلا علي يد السلطان الناصر صلاح الدنيا والدين يوسف الأيوبي، بعد انتصاره التاريخي علي جموع الصليبيين في موقعة حطين، فدخل مدينة القدس، وأمر بإزالة المظاهر الصليبية من علي المسجد الأقصي وقبة الصخرة، وأعاد لها طابعها الإسلامي من جديد. ورغم سقوط القبة تحت الاحتلال الإسرائيلي إلا أنها لا تزال رمزا للصمود تتحدي المحاولات الصهيونية لهدم المسجد الأقصي بكل ما فيه، بحجة البحث عن هيكل سليمان المزعوم، لكنها تبقي أبية علي الرضوخ، تعطي المسلمين بثباتها درسا في الصمود ومواجهة الصعاب، تنتصب في شموخ تنتظر اليوم الذي تتنفس فيه الحرية بعد زوال الاحتلال.