خلل فني.. ما سبب تأخر فتح بوابات مفيض سد النهضة؟    من بين 138 دولة.. العراق تحتل المرتبة ال3 عالميًا في مكافحة المخدرات    الدولار ب50.07 جنيه.. سعر العملات الأجنبية اليوم الاثنين 18-5-2025    الحزب الحاكم يفوز بالانتخابات التشريعية في البرتغال    تركيا: توسيع إسرائيل هجماتها في غزة يظهر عدم رغبتها في السلام الدائم    148 شهيدا خلال 24 ساعة.. حصيلة جديدة للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة    مواعيد مباريات اليوم الإثنين، وأبرزها ليفربول ضد برايتون    شيرينجهام: سأشجع الأهلي في كأس العالم للأندية    مواعيد مباريات اليوم الإثنين 19-5-2025 والقنوات الناقلة لها    بتهمة فعل فاضح، حجز حمادة عزو مشجع مالية كفر الزيات    نجل عبد الرحمن أبو زهرة يشكر للرئيس السيسي بعد اتصاله للاطمئنان على حالة والده الصحية    تعرف على موعد طرح كراسات شروط حجز 15 ألف وحدة سكنية بمشروع "سكن لكل المصريين"    انتخابات رومانيا.. مرشح المعارضة يعترف بهزيمته ويهنئ منافسه بالفوز    السفارة الأمريكية فى ليبيا ترحّب بتشكيل لجنة الهدنة فى طرابلس    تأجيل محاكمة المتهمين بإنهاء حياة نجل سفير سابق بالشيخ زايد    تحرير سعر الدقيق.. هل سيكون بداية رفع الدعم عن الخبز؟    على فخر: لا مانع شرعًا من أن تؤدي المرأة فريضة الحج دون محرم    تشخيص بايدن بنوع عدواني من السرطان    ملف يلا كورة.. أزمة عبد الله السعيد.. قرارات رابطة الأندية.. وهزيمة منتخب الشباب    الانَ.. جدول امتحانات الترم الثاني 2025 بمحافظة المنيا ل الصف الثالث الابتدائي    مجدي عبدالغني يصدم بيراميدز بشأن رد المحكمة الرياضية الدولية    محمد رمضان يعلق على زيارة فريق «big time fund» لفيلم «أسد».. ماذا قال؟    ترامب يعرب عن حزنه بعد الإعلان عن إصابة بايدن بسرطان البروستاتا    البرتغال تتجه مرة أخرى نحو تشكيل حكومة أقلية بعد الانتخابات العامة    بعد إصابة بايدن.. ماذا تعرف عن سرطان البروستاتا؟    الكنائس الأرثوذكسية تحتفل بمرور 1700 سنة على مجمع نيقية- صور    إصابة شخصين في حادث تصادم على طريق مصر إسكندرية الزراعي بطوخ    موعد مباريات اليوم والقنوات الناقلة    شيكابالا يتقدم ببلاغ رسمي ضد مرتضى منصور: اتهامات بالسب والقذف عبر الإنترنت (تفاصيل)    نجل عبد الرحمن أبو زهرة لليوم السابع: مكالمة الرئيس السيسي لوالدي ليست الأولى وشكلت فارقا كبيرا في حالته النفسية.. ويؤكد: لفتة إنسانية جعلت والدي يشعر بالامتنان.. والرئيس وصفه بالأيقونة    تقرير التنمية في مصر: توصيات بالاستثمار في التعليم والصحة وإعداد خارطة طريق لإصلاح الحوكمة    هل توجد زكاة على المال المدخر للحج؟.. عضوة الأزهر للفتوى تجيب    هل يجوز أداء المرأة الحج بمال موهوب؟.. عضوة الأزهر للفتوى توضح    أحكام الحج والعمرة (2).. علي جمعة يوضح أركان العمرة الخمسة    مصرع شابين غرقا أثناء الاستحمام داخل ترعة بقنا صور    تعرف على موعد صلاة عيد الأضحى 2025 فى مدن ومحافظات الجمهورية    القومى للاتصالات يعلن شراكة جديدة لتأهيل كوادر مصرفية رقمية على أحدث التقنيات    24 ساعة حذرة.. بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «اتخذوا استعدادتكم»    البابا لاوون الرابع عشر: العقيدة ليست عائقًا أمام الحوار بل أساس له    قرار تعيين أكاديمية «منتقبة» يثير جدلا.. من هي الدكتورة نصرة أيوب؟    رسميًا.. الحد الأقصى للسحب اليومي من البنوك وATM وإنستاباي بعد قرار المركزي الأخير    في أول زيارة رسمية لمصر.. كبير مستشاري الرئيس الأمريكي يزور المتحف المصري الكبير    مجمع السويس الطبي.. أول منشأة صحية معتمدة دوليًا بالمحافظة    حزب "مستقبل وطن" بسوهاج ينظم قافلة طبية مجانية بالبلابيش شملت الكشف والعلاج ل1630 مواطناً    أحمد العوضي يثير الجدل بصورة «شبيهه»: «اتخطفت سيكا.. شبيه جامد ده!»    أكرم القصاص: نتنياهو لم ينجح فى تحويل غزة لمكان غير صالح للحياة    وزير الرياضة يشهد تتويج جنوب أفريقيا بكأس الأمم الإفريقية للشباب    ننشر مواصفات امتحان مادة الرياضيات للصف الخامس الابتدائي الترم الثاني 2025    بتول عرفة تدعم كارول سماحة بعد وفاة زوجها: «علمتيني يعنى ايه إنسان مسؤول»    المستشار القانوني للمستأجرين: هناك 3.5 ملايين أسرة معرضة للخروج من منازلهم    بحضور رئيس الجامعة، الباحث «أحمد بركات أحمد موسى» يحصل على رسالة الدكتوراه من إعلام الأزهر    تعيين 269 معيدًا في احتفال جامعة سوهاج بتخريج الدفعة 29 بكلية الطب    إطلالات ساحرة.. لنجوم الفن على السجادة الحمراء لفيلم "المشروع X"    أسعار الذهب اليوم الإثنين 19 مايو محليا وعالميا بعد الارتفاع.. بكام عيار 21 الآن؟    رئيس الأركان الإسرائيلي: لن نعود إلى ما قبل 7 أكتوبر    مشروب طبيعي دافئ سهل التحضير يساعد أبناءك على المذاكرة    البابا لاون الثالث عشر يصدر قرارًا بإعادة تأسيس الكرسي البطريركي المرقسي للأقباط الكاثوليك    ما لا يجوز في الأضحية: 18 عيبًا احذر منها قبل الشراء في عيد الأضحى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللواء محمد نجيب يكشف أسرار يوليو 1952 ل«آخرساعة»
تحدث لمحمد التابعي بعد الثورة بيومين
نشر في آخر ساعة يوم 25 - 07 - 2017

أجري الأستاذ محمد التابعي مؤسس مجلة »آخرساعة»‬حواراً مع اللواء محمد نجيب بعد يومين فقط من قيام ثورة23 يوليو، وتحدث نجيب في الحوار عن أسرار وكواليس الثورة، ورؤيته للسنوات المقبلة في مصر، وكيف انضم للضباط الأحرار وغيرها من الأسرار والحكايات.. ونشر في عددي المجلة 13 و 20 أغسطس 1952
هذا مقال أو حديث كان ينبغي أن ينشر في عدد (آخر ساعة الأخير) الذي صدر خاصا (بأسرار الحوادث) ولكنني كنت قد غادرت القاهرة إلي رأس البر قبل صدور العدد وأنا أعتقد أن العدد المذكور سيكون خاصا بمساوئ الملك السابق فاروق.. لا بأسرار الحوادث.
التابعي..
بدأت حركة الجيش في فجر يوم الأربعاء 23 يوليو الماضي.. واهتزت البلاد من أقصاها إلي أقصاها فرحا واستبشارا بالخلاص.. ووقفت الصحافة عين الشعب وأذنه ترقب الحوادث دقيقة بدقيقة وساعة بساعة.. وتتساءل كما كان الشعب يتساءل متي يقدم الجيش علي اتخاذ الخطوة المرجوة؟ الخطوة الجريئة الحاسمة التي تستأصل الفساد من جذوره؟..
ومرت ساعات النهار.. وأقبل المساء، وجلسنا نتحدث عن الحركة وعن خيبة الأمل التي أحسسنا بها جميعا.. وقد عجبنا أن تقف أهداف الحركة عند حد المطالبة بتطهير الجيش.. وهل من الممكن أن يبقي الجيش نظيفا.. والبلاد موغلة في الفساد؟!
وكان هذا هو كل ما أعلن يومئذ عن أغراض الجيش ومطالبه، وسوف يري القراء أنها كانت مناورة بارعة، و»‬تكتيكا» خليقا بمعركة من معارك التاريخ الفاصلة!
ولكننا لم نكن نعرف!.. ومن ثم جلسنا نتحدث بمرارة الذين خابت آمالهم..
وقال أحدنا: يظهر إن الحركة »‬فياسكو»! أي فاشلة!؟
وقال آخر: وهل يظن اللواء محمد نجيب بك إذا أجيبت طلباته الخاصة بتطهير الجيش هل يظن هو وأصحابه أنهم قادرون علي الاحتفاظ بنظافة الجيش إذا ظل رأس الفساد حيث هو.. طاغية مستبدا وحاكما بأمره!..
وقال ثالث: مساكين! (يقصد اللواء نجيب وأصحابه).. مساكين لأن فاروق قد يحني اليوم أمامهم رأسه لكي يبطش بهم غدا..
وتحدثت أنا عن (أنصاف الحلول) وأنها لا تجدي بل قد تؤذي.. وقلت إن قادة الحركة قد قنعوا فيما يظهر بأنصاف الحلول.. تطهير الجيش.. وإقصاء زيد أو عبيد من بطانة السوء وحاشية الفساد..
وأسفت حقا، ومن حبة القلب، ألا ينتهز قادة الحركة هذه الفرصة لكي يحطموا رأس الفساد.. الذي هو فاروق؟ وغادرت دار (أخبار اليوم) إلي موعد لي مع بعض الأصدقاء في نادي رمسيس وجلست بين الأصدقاء أتحدث بما كنت أتحدث فيه في دار »‬الأخبار» وأقول بصوت يسمعه الجالسون حول الموائد القريبة.. »‬إن أنصاف الحلول لا تجدي بل قد تؤذي».
هذا وصديق يغمز لي بعينه أن أحترس وألا أخوض في هذا الحديث الخطر.. ولكني لم أبال بغمزات الصديق ومضيت في الحديث.. ثم قلت (وددت لو استطعت مقابلة اللواء نجيب بك لكي أقول له إن أنصاف الحلول لا تجدي.. وإن الشعب ينتظر منه ومن إخوانه أن يخلصوه مما هو فيه.. ولن يكون ذلك إلا بخلع الملك فاروق..!
وعض صديقي شفته.. ورفت عيناه بالغمز السريع المتواصل ولكني لم أبال!..
وقال الأستاذ مدحت أباظة وكان بين الحاضرين ..
- هل تريد حقيقة أن تقابل اللواء نجيب بك؟
قلت: بكل تأكيد..
قال: أعتقد أنني أستطيع تدبير هذه المقابلة..

وكان هذا كما قلت في أول يوم من بدء الحركة المباركة.. الأربعاء 23 يوليو 1952 وبعد ظهر اليوم التالي الخميس كلمني الأستاذ مدحت أباظة بالتليفون ليبلغني أن اللواء نجيب بك مستعد لمقابلتي في صباح يوم الجمعة...
في مكتبه بالقيادة العامة.. وأن رقم تليفونه هو 60005 وأنه يطلب مني أن أتفق معه أولا بالتليفون علي الساعة التي يستقبلني فيها...

وفي ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة أبلغني صديقي كامل الشناوي من مستشفي الدكتور الكاتب بالتليفون أن مصطفي وعلي أمين قد اعتقلا بأمر من القيادة العامة.
وعقدنا اجتماعا في حجرة كامل الشناوي في المستشفي.. وقلت للزملاء المحررين ورؤساء التحرير إنني علي موعد لمقابلة اللواء نجيب بك هذا الصباح.. وسوف أسأله عن سبب اعتقال الصديقين الزميلين..
ومن مستشفي الدكتور الكاتب تحدثت بالتليفون مع اللواء نجيب بك وسألته عن الساعة التي أحضر فيها.. فقال:
- أنا خارج الآن للمرور .. وسوف أعود بعد نصف ساعة ، فهل توافقك الساعة التاسعة والنصف؟
قلت: نعم
وسألني : عندك عربية؟
قلت: نعم وشكرا..

ومضيت في سيارة الصديق الزميل حسنين هيكل الذي يفخر وبحق أنه صديق الجيش من قديم.. مضينا إلي مقر القيادة العامة..
وهنا أقف قليلا لكي ألفت نظر القارئ إلي التفاصيل التي حرصت علي سردها ومنها يدرك القارئ أن مقابلتي للواء أركان حرب محمد نجيب في يوم الجمعة 25 يوليو لم تكن بشأن اعتقال مصطفي وعلي أمين كما ذكرت بعض الصحف.. لأن المقابلة كان متفقا عليها من قبل اعتقال الزميلين بثمان وأربعين ساعة!

كان فناء دار القيادة العامة وردهاتها خالية إلا من الضباط والجنود.. ولم أر فيها من المدنيين سوي مندوب زميلة صباحية.. واستقبلنا اللواء محمد نجيب في غرفة مكتبه.. وكانت هذه أول مرة أري فيها الرجل الذي حقق المعجزة ورفع رأس مصر ورد عليها مقامها بين الشعوب وقال قولته التي نشرتها صحف العالم علي صفحاتها الأولي.. وأذاعتها محطات الإذاعة في العالم بكافة اللغات!.. .
قولته التي سوف يسجلها التاريخ بين كلمات قادة الشعوب.. باسم الجيش ممثل الشعب أطلب أن يتنازل الملك فاروق عن العرش قبل الساعة كذا وأن يغادر أرض مصر قبل الساعة كيت!
ولكنني لم أكن أعلم! وأنا لي العلم وقد أحكم محمد نجيب وأصحابه تدبير خطتهم وأقاموا حولها أستارا من التمويه والإيهام أخفوا وراءها حقيقة ما يهدفون إليه.. حتي لا ينتبه فاروق إلي ما يراد به.. فيهرب أو يفزع إلي دولة أجنبية كما فعل عم له من قبل!.
ومد محمد نجيب يده يصافحني وهو يبتسم وفي وجهه سماحة وفي عينيه طيبة صريحة حلوة..
ولكن تقاسيم وجهه - وجه الجندي الصريح الطيب القلب لم تفلح تماما في إخفاء ذكائه.. بل ودهائه!..
وأنه من الممكن أن يجمع الجندي بين طيبة القلب والذكاء.. وبين سعة الحيلة والصراحة والدهاء..!
ولقد أحسست بعد دقائق أن محمد نجيب أذكي بكثير مما يبدو.. وأنه مع صراحته يستطيع أن يكون واسع الحيلة كبير الدهاء!.. وهذه صفات تولد ولا تكتسب تولد مع القائد الممتاز.. أو الزعيم المختار بإرادة الله!

وكان في غرفة القائد ثلاثة من الضباط قدمني إليهم وأمسك هنا عن ذكر أسمائهم نزولا علي رغبة القيادة العامة..
وبدأت حديثي عن اعتقال الزميلين مصطفي وعلي أمين.. ولم يطل هذا الحديث أكثر من دقائق بعد أن اطمأننت إلي أن قادة الحركة حريصون علي تحقيق العدالة.. وأنهم لن يظلموا أحدا ولن يؤخذوا بدسيسة أي حقود خسيس!
وقال اللواء محمد نجيب وهو يأخذ بذراعي ويسير بي إلي ركن من غرفة المكتب:
- ولكنك كنت تريد أن تتحدث إلي في أمر آخر؟
قلت.. نعم..
ثم نظرت في عينيه العميقتين وأنا أقول:
- شوف يا نجيب بك.. أنا رجل صريح ولقد جرت علي صراحتي هذه نقمة دنيا السادة والأقوياء.. ولكني بقيت كما أنا..
وابتسم هو وربت علي كتفي وقال:
- ما هي دي الرجولة!..
قلت: سوف أحدثك إذن بصراحة.. وقد تغضبك صراحتي!
ومضيت في حديثي..
- إن أنصاف الحلول لا تنفع!.. وأنت وأصحابك تعرفون جيدا أين أس الفساد.. وأن الملك هو المسئول الأول عن هذا الفساد... ولن تنجح حركتكم هذه ولن تحقق أغراضها إذا تركتم فاروق علي العرش..
وشعرت أنه يريد أن يقول شيئا ولكني مضيت أقول..
- إن الشعب قد استقبل حركتكم هذه بالفرح والتأييد..
قال: نعم والحمد لله..
قلت: ولكن هذا الشعب كان يرقص في الشوارع.. وكانت نساؤه تزغرد لو كنتم خلعتم الملك فاروق..
وانحني اللواء محمد نجيب قليلا وأشهد له بالبراعة في فن التمثيل! انحني لكي يهمس!.
- مش جايز أمريكا تتدخل وتقول عنا رايحين نبقي شيوعيين!!
قلت: لا.. لن تتدخل أمريكا ولا بريطانيا ولا غيرهما من أجل الملك فاروق لأن سمعته أصبحت عندهما زفت وقطران.. ولأنها تدرك أن فساد حكمه من أكبر أسباب انتشار السخط في مصر.. والسخط هو ميكروب الشيوعية..
قال ويا لغباوتي أنا فقد كنت أظن أنه غير مقتنع بينما كانت الخطة مرسومة محبوكة التدبير ولكنه كان حريصا وله كل الحق علي السرية التامة والكتمان!
قال: برضه يا أستاذ مش مطمئنين إلي إنجلترا.. ويمكن تتدخل وعدت أؤكد له أنه لا إنجلترا ولا سواها تتدخل ما دام الأمن مستتبا وأرواح الأجانب ومصالحهم في أمان.
ثم عدت أقول :
ومع ذلك ليه ما ينزلش عن العرش لابنه؟
وهنا لمعت في عينيه ابتسامة لم أفهم معناها في تلك اللحظة.. ولكني فهمتها فيما بعد!. لمعت عيناه لأنني وقعت علي سر الخطة المرسومة من قبل! سر التدبير المحكم الذي كان حريصا طول حديثنا علي أن يخفيه..
لمعت عيناه بابتسامة وأنا أقول:
- ممكن المناداة بولي العهد ملكا تحت الوصاية.. وربنا يفرجها من هنا إلي أن يبلغ سن الرشد..
وعاد اللواء نجيب يهز رأسه ويقول:
- مش وقته!.. مش عايزين نعمل رجة!.
وتملكني اليأس من إقناعه!.. وكم كنت »‬غبيا» عندما ظننت أن محمد نجيب وأصحابه قد غاب عنهم مالم يغب عني..
نعم، كنت غبيا مسرفا في حسن الظن بذكائي وبعد نظري!!

تملكني اليأس فقلت
- وهل تظن أن الملك فاروق سوف يسكت!.. قد يسكت مؤقتا ولكن يا خوفي عليك وعلي اللي معاك!.. سوف يحاربكم الملك بملايينه ولو ينفقها إلي آخر مليم .. ثم يعود فيستردها من دم الشعب أضعافا.. وسوف يحاربكم فلان بملايينه .. وعلان بملايينه (وذكرت له اسمي رجلين من رجال الملك فاروق)
وقال هو : وسوف يحاربنا »‬فلان» بدعايته!
وذكر اسم ثالث من رجال فاروق! قلت: نعم.. إذن طاوعني واضرب قبل أن يضربكم الملك فاروق!
قال: ولكن الذي تقترحه كان يستلزم استعدادا قبل عشرة أيام أو اثني عشر يوما .. ونحن لم يكن عندنا وقت!
وصدقته أنا »‬الغبي» مع أن »‬الفكرة» كانت موجودة منذ حرب فلسطين كما ذكر الصحفي روبرت هور في مقاله، والصحفي المذكور صديق اللواء محمد نجيب وقد عرفه أثناء حرب فلسطين وسمع منه أكثر من مرة أنه ينوي الثورة علي الملك فاروق الفكرة كانت موجودة منذ أربعة أعوام والخطة المحكمة كانت مرسومة منذ شهور.. ولم يكن ينتظر سوي الفرصة المواتية للتنفيذّ.
ولكنني صدقته.. ويئست من إقناعه!
وهنا دق جرس التليفون وقيل له (رئيس الوزراء يطلبك من الإسكندرية) وتناول هو سماعة التليفون..
وابتعدت أنا .. وذهبت إلي حيث كان يقف الضباط الثلاثة.. وحاولت أن أقنعهم بأن ينضموا إلي في إقناع اللواء محمد نجيب!
ومضيت أعيد عليهم ما قلته له.. وأحذرهم من بطش فاروق.. وفشل الحركة..
ووقفوا هم ينصتون إلي ولا يقولون شيئا!
ولابد أنهم قالوا بعد أن خرجت:
- كم هو غبي هذا الصحفي!.. وكم هو مغرور حتي يظن أنه وحده الذي لم تغب عنه هذه الحقائق!

ونظرت إلي الساعة فإذا بي قد أخذت من وقت اللواء محمد نجيب نحو ساعة.. وكان قد انتهي من حديثه التليفوني مع رئيس الوزراء علي ماهر..
وقلت أستأذن بأه فقد أخذت من وقتك كثيرا..
قال: بعد أن تشرب واحد كوكا كولا..
وتناولنا الكوكا كولا..
وقال وهو يمسح شفتيه:
- لم أر أولادي، ولم أغير ملابسي ولم أنم سوي ساعات.. منذ أربعة أيام قلت: معلهش! علشان مصر.. قال: نعم.. ومن أجل مصر كل شيء يهون!
ومشي معي إلي الباب يودعني.. وفي محاولة أخيرة لعلي أقنعه! قلت:
- هل أكتب مقالا عن (أنصاف الحلول) وأذاها.. لكي أهيئ أذهان الشعب! وأسرع هو يمسك بذراعي ويقول:
- كلا .. أرجوك أن لا تفعل .. مش وقته!
ومرة أخري صدقته.. وكنت غبيا! ومرة أخري حرص هو القائد المسئول علي إحاطة خطته بكل السرية وكل الكتمان !
وعدت إلي مكتبي وكتبت مقالي (وقع ما كان لابد أن يقع)..
ولم أذكر في المقال شيئاً عن أنصاف الحلول ..
وظهرت (أخبار اليوم) وفيها المقال.. بينما كان الجيش يحاصر قصري المنتزه ورأس التين.. والملك السابق يتلو إنذار محمد نجيب..
باسم الجيش ممثل الشعب أطلب أن يتنازل الملك فاروق عن العرش قبل الساعة الثانية عشرة ظهرا وأن يغادر الأراضي المصرية قبل الساعة السادسة من مساء اليوم!

ثم استكمل التابعي حديثه مع محمد نجيب في العدد التالي لآخرساعة والذي صدر في 20 أغسطس 1952 وقال: إن اللواء محمد نجيب.. والضباط الذين لقيتهم معه في غرفة مكتبه بالقيادة العامة.. كانوا حريصين.. ولهم كل الحق.. علي السرية التامة والكتمان.. وعلي سياسة التمويه التي قامت عليها حركتهم.. وأنهم تركوني أعتقد أن حركة الجيش تهدف إلي تطهير الجيش.. وإقصاء بعض الفاسدين المفسدين من حاشية فاروق.. ولا شيء غير هذا.
وأنني لما تحدثت إلي القائد العام عن خلع الملك فاروق استكبر الأمر بحجة أنه قد يحدث رجة وأن بعض الدول الأجنبية قد تتدخل إلي آخر الحديث الذي رويته في مقالي المنشور بعدد (آخر ساعة) الأخير.
وغادرت دار القيادة العامة وأنا أشعر بخيبة أمل شديدة.. وأشد منها خوفي علي هؤلاء الضباط البواسل أن يخدعهم فاروق وينحني أمامهم اليوم.. لكي يبطش وينكل بهم بعد حين.
وكان هذا كما قلت في صباح يوم الجمعة..

وفي يوم السبت.. ومنذ الصباح الباكر.. توالت الحوادث سريعة مفاجئة متلاحقة..
وعند الضحي.. وأعجب معي لسرعة انتشار الخبر.. كانت البلاد قد عرفت أن الجيش يحاصر منذ فجر اليوم قصري رأس التين والمنتزه بالإسكندرية.. وعابدين والقبة بالقاهرة.
ومنذ الظهر عرف الشعب أن نبأ هاما سوف يذاع بعد ساعات.
واهتزت البلاد من أقصاها إلي أقصاها فرحا واستبشارا بالنبأ المنتظر.
ولم يشك أحد لحظة واحدة في أن النبأ هو خلع الطاغية.. فاروق عدو الشعب رقم واحد.. الذي لم يذكر تاريخ الملكية شبيها له في استهانته بالحرمات والكرامات.. ولا شبيها له جشعه وطمعه وخسته ونكرانه للجميل.. أو شبيها له سير جيشه إلي الحرب لكي يزوده بالأسلحة والذخائر الفاسدة التي يتناول عنها (سمسرة) تقدر بالملايين.. يتقاضاها من دم (الشعب).. ومن دماء الجنود والأبطال.. ومن كرامة مصر وحرمة راية مصر ومقام مصر بين الشعوب.

وفي مساء اليوم التالي الأحد أفرجت القيادة العامة عن مصطفي وعلي أمين بعد أن تأكدت من كذب الدسيسة الخسيسة.. وأصدرت بلاغا رسميا مشرفا للصديقين.
ورأيت من واجبي أن أذهب في صباح الاثنين لأقدم شكر دار الأخبار وشكري إلي القائد العام لأنه وفي بوعده لي وهو سرعة التحقيق في التهمة والبت في أمر الزميلين.
وذهبنا.. هيكل وأنا.. إلي دار القيادة العامة..
ولكن دار القيادة العامة التي كانت منذ ثلاثة أيام خالية تماما إلا من الضباط والجنود.. وجدنا ساحتها وردهاتها ودهاليزها وحجراتها مزدحمة بالذين تقدموا لتهنئته وتأييد حركة الجيش..
وزراء سابقون.. وعلماء ورجال دين.. ووجهاء وصحفيون.. وكبار موظفين.. وأحد من هؤلاء لم يقدم إلي دار القيادة العامة في أيام الخميس والجمعة والسبت يهنئ ويؤيد.. ذلك لأن فاروق كان لا يزال ملك مصر.. ولأن حركة الجيش كانت لا تزال علي كف القدر.
ولكنهم تزاحموا علي أبواب القيادة بعد أن نزل الطاغية وبعد أن اطمأنوا إلي أن فاروق قد أصبح في عرض البحر.. بعيدا عن مصر.
حتي الصحف الكبيرة.. الصحف اليومية القوية الغنية.. التي خرست في أيام الخميس والجمعة والسبت فلم تكتب حرفا واحدا فيه معني من معاني التأييد لحركة الجيش.. أو كلمة واحدة فيها معني من معاني الدعاء للجيش بالتوفيق مكتفيا بذكر الحوادث ونشر الصور بدون أي تعليق.. هذه الصحف أوفدت كبار محرريها ومصوريها في يوم الاثنين.. لتهنئة القائد العام والتقاط صور للقائد العام.. بعد عودتهم للإسكندرية.
وصحيفة منها كانت قد التقطت يوم الخميس 24يوليه صورة للقائد العام مع رئيس تحريرها.
ولكن الصحيفة الزميلة المحترمة لم تنشر الصورة لا في يوم الجمعة ولا في يوم السبت..
ثم نشرتها بعد أن تم نزول فاروق عن العرش.. وبعد أن تأكدت الزميلة من اتجاه الريح.
وأف لهذا النفاق!

وأقمنا ننتظر نحو ساعة.. وسيل كبار الزائرين المهنئين لا ينقطع..
وأخيرا رأيت أن اكتفي لترك رسالة شفوية أشكر فيها القائد العام.
ولقد أفضيت بها لضابط صديق من أعضاء هيئة مكتب القائد العام.
ولكننا لم نمض ساعة الانتظار ساكتين.. وقد تحدثنا زميلي هيكل وأنا.. مع أكثر من واحد من حضرات الضباط.. الذين كانوا ممسكين بخطوط الحركة.. وخرجت من الحديث بهذه الحقائق..
سألت أحدهم مثلا ... و أنا أمسك عن ذكر أسماء الضباط البواسل نزولا علي رغبة القيادة العامة ... سألته :
لماذا تركتم فاروق يغادر مصر بهذه السهولة ؟ . . كان في مقدوركم أن تعتقلوه وتحتجزوه وألا تفرجوا عنه إلا بعد أن ينزل عن جميع أمواله التي هربها إلي أوروبا و أمريكا وهي تقدر بملايين الجنيهات . . . وقد سرقها من الشعب بل استنزفها من دم الشعب ودمائكم في حرب فلسطين !
وقال الضابط الكبير:
لقد كان كل همنا أن يخرج فاروق من الأراضي المصرية وبمنتهي السرعة..
ثم ابتسم وأضاف:
بل لو أن فاروق كان قد طلب من كل واحد منا ما معه من مال لكنا أخرجنا محافظ الجيب وأفرغنا ما فيها سواء كان 20 جنيها أو أكثر أو أقل..
كنا أفرغناها في جيبه...وقلنا له: هاك كل ما نملك وأعطنا عرض أكتافك..
لقد كان كل همنا أن نخلص منه وبسرعة..
قلت: معني هذا أنكم كنتم تريدون مواجهة العالم بالأمر الواقع.
قال بعد السكوت لحظة: نعم.. هذا ما كنا نريده..
وتحدثت مع ضابط آخر..
سألته: هل كنتم تحسبون حسابا لتدخل إحدي الدول الأجنبية..
قال: لم نسقط هذا الاحتمال من حسابنا..
ولهذا السبب فرضنا علي أنفسنا.. الكتمان والسرية التامة..
وقدرنا أن نجاح الحركة لن يتحقق إلا بالتمويه مع السرعة ثم المفاجأة.. والأمر الواقع.
قلت: ولكننا قرأنا في الصحف أن كلا من بريطانيا وأمريكا أبلغتكم أنها لن تتدخل وأنها تعد حركة الجيش مسألة داخلية لا شأن لها بها..
قال: نعم: هذا صحيح.. وكل ما طلبه سفير أمريكا هو سلامة فاروق الشخصية..HIO personal SaFAty
وابتسم الضابط وقال:
ويظهر أن فاروق كان في رعب خوفا علي حياته.. ولهذا ألح في أن يكون سفير أمريكا موجودا عند ركوبه اليخت.. (المحروسة).. وفعلا حضر السفير وظل واقفا حتي غادرت المحروسة الميناء.. وعليها فاروق..

والآن أعود بالقارئ إلي الوراء.. إلي 5 أو 6سنوات أي منذ بدأ الجيش يحس بالفساد ويتململ باستئثار حاشية السوء بالأمر حتي أصبحت مناصب الجيش الرئيسية.. كما قالت القيادة العامة في بيان لها أصدرته عند بدء الحركة..
(أصبحت مناصب الجيش الرئيسية وقفا علي كل جاهل أو مغرض أو مفسد).. قالت إن (الفكرة).. أو الثورة علي فاروق كانت موجودة منذ سنوات..وأن محمد نجيب كان يتحدث علنا عن الثورة أمام الصحفي مستر روبرت هور.. أثناء حملة فلسطين.
والواقع أن روح السخط بدأت تنتشر بين صفوف الضباط الشرفاء منذ عام 1946 وأذكر أن أحدهم.. وكان برتبة بكباشي.. زارني في مكتبي في مجلة آخر ساعة ذات مساء في العام المذكور.
وتحدث إلي- من غير سابق معرفة بيننا- بصراحة تامة عن فساد فاروق وطغيانه وعن (قذارة) بعض ضباط الجيش المحسوبين علي فاروق وبطانته..
وجلست أنا أستمع إلي حديث زائري الضابط ولا أقول شيئا.. لأنني في الواقع خشيت أن يكون في الأمر دسيسة.. وأن يكون زائري من (عيون أو أعوان) بطانة السوء.. وأنه جاء ليستدرجني في الحديث لكي يطبشوا بي..
ولهذا سكت ولم أقل شيئا.. لأنني لم أستطع أن أصدق أن ضابطا يتحدث إلي صحفي لا يعرفه بمثل هذه الصراحة عن طغيان الملك السابق.. وعن قذارته وقذارة أعوانه.. وأذنابه في الجيش وغير الجيش..
ولكنها كانت ثقة من حضرة الضابط بشخصي.. وأنا أشكره عليها.. ولو تأخر هذا الشكر سنوات..
ثم تكررت هذه الزيارات.. من ضباط لا أعرفهم ولم يسبق أن قابلتهم وكانوا يزورنني في مكتبي ويتحدثون إليّ.. فيما تحدث فيه زميلهم الذي زارني في عام 1946..
وكانوا جميعا يقولون ما معناه.. أنه لولا خوفهم من أن ينتهز الإنجليز فرصة.. ويعودوا إلي احتلال القاهرة (بحجة حماية العرش) كما فعلوا في عهد الخديو محمد توفيق.. لولا خوفهم من هذا لكانوا قد انقضوا علي فاروق.. وأنزلوه من العرش.
وبعضهم كان يتحدث عن انتشار السخط بين الضباط.. وأنه لا ينقصهم سوي (الزعيم) الذي يلتفون حوله ليقود الحركة.. حركة الثورة والتطهير..
وكانوا يبحثون عن هذا (الزعيم المختار)..
ثم لا أنسي هذا الضابط الذي زارني في مكتبي (أخبار اليوم) عقب الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة ذكري محمد علي أو إبراهيم باشا لا أذكر وكان بين برنامج الاحتفالات عرض عسكري لقوات الجيش في شوارع القاهرة..
لقد دخل حضرة الضابط غرفة مكتبي..قال :
أنا اسمي كذا وأنا ابن فلان ومتزوج من بنت فلان.. ويمكنك.. إذا بحت بما سأقوله لك.. أن ترسلني إلي السجن ولكنني واثق بك.. والآن أسمع.
وتكلم الضابط..
لقد أصدرتم عددا خاصا من (آخر ساعة) ونشرتم فيه صور العرض العسكري وصور الدبابات التي سارت في شوارع القاهرة.. وصور مدافع الميدان.. وصور.. إلي آخره.. وشعب مصر.. يعتقد الآن أن عند الجيش دبابات ضخمة مسلحة بالمدافع.. وأن عند الجيش كذا وكذا.. وكيت من الأسلحة الحديثة وأن الجيش والحالة هذه قادر علي رد أي هجوم قد تشنه علينا إسرائيل.. وأنت تعلم أن إسرائيل تتحرش بنا علي الحدود في كل يوم.. وقد تبدأ العدوان !
وأسألك يا أستاذ ماذا تقول أنت وماذا يقول الشعب إذا عجز الجيش عن رد العدوان.. سوف تقولون وقد رأيتم عشرات الدبابات تهز شوارع القاهرة- إننا جبناء.. ومجرمون وإننا قصرنا في واجب الدفاع عن مصر وكرامة مصر..
وهنا كان وجه زائري الضابط قد احمر غضبا.. وكانت عيناه تلمعان بالدمع المحبوس!
وسكت لحظة قبل أن يقول:
إن هذه الدبابات التي سيروها في شوارع القاهرة والتي نشرتم صورها في (آخر ساعة).. دبابات (خردة).. مقصوصة المدافع.. وهي إحدي (الصفقات) التي عقدها أحد أفراد حاشية الملك وقد اشتراها من مخلفات الجيوش البريطانية الموجودة في الصحراء.. ولكن الإنجليز لم يبيعوها إلا بعد أن قصوا مدافعها!
واليوم يريد الملك فاروق و(ال....) بتوعه الذين فرضهم علي الجيش.. يريدون أن يخدعوا الشعب وأن يوهموه بأنهم زودوا الجيش بكل سلاح حديث!
إلي آخره.. إلي آخره..

السخط بين صفوف الجيش كان موجودا منذ سنوات.. وفكرة الثورة علي فاروق كانت موجودة منذ سنوات..
ولكن الجيش كان يبحث عن الزعيم الذي يقود الحركة..
ووجد الجيش الزعيم في شخص محمد نجيب..
والآن أنتقل بالقارئ إلي سر الخطة.. إلي خطوطها العريضة.. لأنني لا أزعم لنفسي العلم بالتفاصيل..
بل أذهب إلي أبعد من هذا وأقول إن هذه التفاصيل لم يكن بها سوي القائد محمد نجيب وقلة من أنصاره قد تعد علي أصابع اليدين.
وكانت الخطة تقوم كما قلت علي ..التمويه والخداع..
وعلي السرعة مع الحذر الشديد
ثم المفاجأة..

بدأت حركة الجيش في فجر الأربعاء 23يوليو وكان اللواء محمد نجيب وأنصاره غير متأكدين من موقف بعض قوات الجيش من برية وبحرية وخصوصا القوات المرابطة في الإسكندرية..
وغير متأكدين من مدي تأييد الشعب للحركة!..
كانوا يعلمون أن طبقات الشعب ساخطة متذمرة تلعن فاروق في السر.. ولكنهم كانوا يعلمون كذلك أن هناك أحزابا لها نفوذ شعبي وهذه الأحزاب »‬الملوثة» سوف تحارب حركة التطهير التي قامت عليها حركة الجيش..
وكانوا غير متأكدين من موقف بعض الدول الأجنبية..
وبدأت الحركة بالاستيلاء علي محطة الإذاعة وعلي المرافق العامة وكان الاستيلاء علي محطة الإذاعة وإذاعة البيان الأول للقيادة العامة..
كان هذا وذاك (ضربة معلم) قد عرف الشعب أهداف الحركة وأن الجيش لا يستهدف سوي التطهير لرفع الظلم عن أكتاف الشعب الذي ناء بما حمل!
ومنذ الساعة الأولي تبددت شكوك قادة الحركة من جهة مدي تأييد الشعب لأنهم أحسوا بأن الشعب معهم..
الشعب من جميع الطبقات وجميع الأحزاب!
الشعب بجموعه وجماعاته ولا يهم بعد إذ تأييد الزعماء أو فريق من هؤلاء الزعماء.
ثم توالت برقيات التأييد من قواد الجيش الموجودين خارج مصر.. وخارج القاهرة..
وأطمأن اللواء محمد نجيب وأنصاره.. وخطوا الخطوة الثانية وقد عدوها (امتحانا) لقواتهم ومدي نجاح الحركة.
وكانت هذه الخطوة الثانية هي المطالبة باستقالة وزارة نجيب الهلالي..
وبإسناد رئاسة الوزارة إلي علي ماهر.
وأجيب الطلب في ساعة واحدة..
وكان انتصارا رائعا للحركة.
وازداد اطمئنان قادة الحركة.. ولكنهم لم يتخلوا عن سياسة الحظر والتمويه..
وكان (تكتيك) الحركة يقضي بأن يطمئن الملك السابق إلي أن الجيش لا يهدف إلي خلعه عن العرش.. وألا فقد يهرب فاروق في طائرة إلي الخارج دون أن ينزل عن العرش ومن ثم يخلق موقفا معقدا مليئا بالاحتمالات.
أو قد يفزع إلي دولة أجنبية يستنجد بها ويطلب منها التدخل وحماية عرشه!
ومن هنا كانت سياسة التمويه والخداع.
ويتقدم الجيش يطلب تطهير حاشية الملك.. وإقصاء فلان.. وفلان.. وفلان..
وهنا اطمأن فاروق علي عرشه!
وقال.. والمنطق معه لو أن الجيش كان يقصد إنزالي عن العرش لما كان هناك داع لطلب تطهير الحاشية وإقصاء بعض أفراد من رجالي لأن الجيش كان يمكنه.. بعد نزولي عن العرش أن يطرد الجميع بمكنسة كبيرة!
وهذا هو تماما ما قدره قادة الحركة وهذا هو التمويه الذي أوقعوا فيه فاروق.
اطمأن إذن فاروق واسترد شيئا من ثقته بنفسه.
وباسترداد ثقته بنفسه عاد الطاغية يناقش ويجادل ويقبل شيئا ويرفض شيئا آخر..
وأعلن في يوم الخميس أنه يوافق علي اقصاء فلان وعلان من رجال الحاشية ولكنه يرفض إقصاء زيد وعبيد لأنهما من خدمه الخصوصيين.. ولا شأن للجيش ولا لأحد بخدمه الخصوصيين.
وهنا وكان قادة الحركة قد اطمأنوا إلي تأييد إخوانهم ضباط القوات المعسكرة في الإسكندرية هنا أرسل قادة الحركة لواء مدرعا إلي الإسكندرية
وعادوا وكرروا عن طريق الرئيس علي ماهر طلبهم الخاص بإقصاء جميع أفراد حاشية السوء
ومرة أخري نجحت سياسة التمويه وظن فاروق أن إلحاحهم في طرد رجاله يعني أنهم لا يقصدون به هو أي سوء وأن إرسال اللواء المدرع هو من قبيل »‬المظاهرة» التي يراد بها إرغامه علي الموافقة.
ووافق علي طلبات الجيش الخاصة بتطهير الحاشية في صباح الجمعة.
وعند ظهر نفس اليوم سافر اللواء محمد نجيب وبعض إخوانه الضباط إلي الإسكندرية لكي يبحثوا بقية تفاصل التطهير مع رئيس الحكومة علي ماهر وكانت الوزارة تقيم يومئذ في الإسكندرية وكان هذا هو الفصل الأخير في سياسة التمويه.
وإلي هنا لم يكن أحد في البلاد قد فطن إلي حقيقة المناورة البارعة وأن الجيش ينوي إرغام الطاغية علي النزول ومغادرة الأراضي المصرية
لم يفطن أحد إلي هذا ونامت الملايين في المساء يوم الجمعة وهي تحس الغيظ وخيبة الأمل.
وكذلك سفارات الدول الأجنبية في مصر نجحت معها سياسة التمويه وظنت كما ظن الملك السابق أن الحركة تهدف إلي تطهير الجيش والحاشية ليس إلا
ويقول زميلي هيكل إن قلم المخابرات البريطانة في مصر اعترف بأن له سبعين سنة في مصر وأن هذه الحركة هي أول حادث فوجئ به تماما قلم المخابرات المذكور

وفي فجر يوم السبت تحرك الجيش بدباباته ومصفحاته وحاصر قصري رأس التين والمنتزه وأنزل الطاغية عن العرش وطرده من البلاد وكتب محمد نجيب وإخوانه صفحة جديدة مشرفة في تاريخ مصر الحديث.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.