مرة أخري يضرب الإرهاب لندن ومرة أخري، يُعتقد أنها لن تكون أخيرة، تدفع بريطانيا ثمن جرائمها في الشرق الأوسط، بدءاً من تاريخها الاستعماري ومروراً بإيواء من يُطلق عليهم قيادات الإسلام السياسي، وأخيراً المشاركة في أكبر عملية سطو مسلح إرهابية في تاريخ البشرية حينما سارت بجحافلها خلف الولاياتالمتحدةالأمريكية لغزو العراق عام 2003. ومرة أخري تشير أصابع الاتهام للمسلمين، وبغمز وهمز للإسلام كدين يحرض علي العنف، ونسيت جوقة موجهي الاتهامات في الشرق والغرب أن بريطانيا شاركت في غزو العراق تابعة خاضعة للرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش، الذي أعلنها "حرباً صليبية" بعدما اختلق أكذوبة امتلاك بغداد أسلحة دمار شامل، وكان يزعم في أحاديثه أن "الرب يسوع يأتيني في المنام" ليأمره بما يجب وما لا يجب فعله، ورغم هذا ليس من المعقول الادعاء بأن المسيحية دين يحرض علي القتل والعنف والخراب والدمار، حتي بعدما قتل الغزاة أكثر من مليون مدني ونهبوا بترولا وتراثا وآثارا من بلاد الرافدين تفوق قيمتها مئات التريليونات من الدولارات. قبل الانتخابات العامة التي ستشهدها البلاد غداً، وقبل أن تستفيق المملكة التي لم تكن تغيب عنها الشمس من صدمتي هجوم ويستمنستر (4 قتلي 10 مصابين)، ومانشستر (23 قتيلاً وعشرات الجرحي)، في مارس ومايو الماضيين علي الترتيب، شهدت ليلة أخري من الرعب روي تفاصيلها بعض الناجين من الهجوم الدامي الذي شهدته لندن مساء السبت، عندما كانت العاصمة البريطانية تغص بجمهور اعتاد السهر في عطلة نهاية الأسبوع بالقرب من نهر التايمز. »الشاحنة صدمت فتاة ورفعتها 20 قدما.. رأيتها تطير في الهواء» هكذا يحكي أحدهم لمحطة بي بي سي بأنفاس متقطعة قبل أن يكمل: "رأيت رجالا يخرجون من الشاحنة.. يطعنون كل من يصادفونه في طريقهم". قبل دقائق من انقضاض الشاحنة علي المارة وخروج أشخاص راحوا يطعنون الناس عشوائيا بالسكاكين، كانت المطاعم والبارات تغص بالناس في ليلة صيفية معتدلة في وسط لندن حيث اجتمعوا لمشاهدة المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا علي شاشات كبيرة. وخلال دقائق، قُتل ستة أشخاص قبل أن تعاجل الشرطة ثلاثة مهاجمين بالرصاص. وأبلغ جهاز الإسعاف عن نقل 48 شخصا إلي المستشفيات. في البداية انقضت شاحنة صغيرة بيضاء بسرعة علي المارة علي جسر لندن بريدج، فهُرع من أفلتوا من الدهس لمساعدة المصابين. عندها التفت السيارة وانقضت بسرعة مجددا علي الناس المتجمعين علي الطريق، وفق ما أكد الشهود. وقال ألساندرو لإذاعة بي بي سي "رأيت الحافلة الصغيرة تتحرك بسرعة يمينا ويسارا، لتصدم أكبر عدد من الناس". وأضاف "حاولنا مساعدة خمسة أو ستة أشخاص، كلهم شباب". وقال مارك، الذي كان في وسط شارع لندن بريدج يلتقط صورا لمبني تاور بريدج، إن السيارة كانت "تتحرك مسرعة من جنب لآخر. رأيتها تصدم الناس. صدمت فتاة ورفعتها ستة أمتار عن الأرض.. مسكينة.. رأيتها تطير في الهواء". وأضاف "كان هناك ما بين خمسة إلي ستة أشخاص علي الأرض، لا شك أنهم أصيبوا بجروح خطرة". وقالت آن البالغة من العمر 26 عاما وهي من سكان لندن "أنا علي ثقة أنه اعتداء إرهابي. رأيت الشاحنة الصغيرة تنحرف جنوبا وتصدم سور جسر لندن بريدج، ثم خرج منها رجل يحمل سكينا. كان يجري ثم نزل الدرج وتوجه إلي حانة". وروي سائق سيارة الأجرة كريس لإذاعة ال"بي بي سي" أنه شاهد رجالا يشهرون سكاكين طويلة يخرجون من الشاحنة. وقال "خرج ثلاثة رجال يحملون ثلاثة سكاكين طويلة، طولها ربما 12 بوصة (30 سنتيمترا). راحوا يطعنون كل من يصادفونه في طريقهم". وروي إريك أنه رأي الرجال الثلاثة يخرجون من الشاحنة لكنه ظن أنهم يريدون إسعاف من أصيبوا لكنهم "قاموا بركلهم ولكمهم ثم أخرجوا السكاكين. كانت حالة من الجنون"، وتوجه المهاجمون بعدها إلي حي بورو ماركت وهم يصرخون "هذا باسم الله". وقال أليكس شيلوم الذي كان في حانة مادلارك قرب لندن بريدج إنه رأي شابة تترنح، "كانت تنزف من رقبتها ومن فمها". وأضاف لإذاعة بي بي سي "بدا لي ولأصحابي أنها ذبحت". وبث المهاجمون الذين كانوا يرتدون سترات ناسفة وهمية الذعر وانقضوا طعنا علي أول شرطي صادفوه في المكان. وخلال ثماني دقائق من أول اتصال بخدمة الطوارئ، قتلت الشرطة المهاجمين الثلاثة. وبعد وصولها إلي المكان، طلبت الشرطة من الناس البقاء داخل المطاعم والحانات حفاظا علي سلامتهم، والاحتماء تحت الطاولات. ثم طلب منهم وضع أيديهم فوق رؤوسهم. جدل ولم يتوقف الجدل بين التيارات السياسية حول مدي تمكن المؤسسات الأمنية من استباق التهديدات، واحتواء تغلغل التطرف في بعض شرائح المجتمع البريطاني، فبعض المؤسسات والتنظيمات الدينية المتطرفة وجدت في بريطانيا ملاذا آمنا لأنشطتها وخطاباتها التحريضية التي تلقي صدي في صفوف الشباب، لتبدو لندن بذلك تحصد مازرعته أو كمن حضّر عفريتاً ولم يستطع أن يصرفه بل من الواضح أن هذا العفريت قد ركبها وأصبح يضربها أينما وكيفما ووقتما شاء. وترتفع الأصوات الداعية لإعادة النظر في استراتيجيتها القائمة علي مد الجسور مع بعض التنظيمات المتشددة مثل جماعة الإخوان، بعد رهان خاسر مع التقلبات السياسية في الشرق الأوسط. لكن النظرة البريطانية الأمنية المتفحصة لم تغير من واقع الحال في التعامل مع الإخوان، حيث بقيت لندن "الواحة الآمنة" التي تظل الجماعة منذ أكثر من 6 عقود، بل إن حكومة ماي أصدرت في أغسطس الماضي، قرارا يتيح لأعضاء التنظيم ممن اعتبرتهم غير متورطين في أعمال عنف، حق الحصول علي اللجوء السياسي. وحسب تقرير لجهاز الأمن الداخلي في بريطانيا الصادر في مارس 2017 فإن قوات الأمن ألقت القبض علي أكثر من 260 مشتبها به في قضايا متعلقة بالإرهاب خلال عام 2016، 74٪ بالمئة منهم يحملون الجنسية البريطانية، مما يؤكد تصاعد تهديدات الإرهاب المحلي، وانتشار عدوي التطرف من الخارج للداخل. يضاف إلي ذلك العناصر الإرهابية العائدة إلي بريطانيا من بؤر الصراعات في الشرق الأوسط. وقدرت مصادر أمنية بريطانية عدد المتشددين داخل بريطانيا وخارجها ممن يرتبطون بهذا البلد، بأكثر من 23 ألفا، يخضع نحو 3 آلاف فقط من هؤلاء لمراقبة أجهزة الأمن. لكن جهاز الأمن الداخلي قادر علي مراقبة 50 شخصا منهم فقط علي مدار الساعة، لما يتطلبه ذلك من موارد بشرية. تعهد ومع انخفاض شعبيتها في استطلاعات الرأي بشكل ملحوظ، تعهدت رئيسة الوزراء تريزا ماي بألا يؤثر الحادث علي الانتخابات وأن تُجري في موعدها، ومن جانبه تعهد جيريمي كوربن، زعيم حزب العمال المعارض، بتغيير السياسة الخارجية للبلاد إذا ما فاز حزبه في انتخابات الثامن من يونيو الجاري، وقال إن سياسات حزبه تهدف إلي "تقليص التهديدات الإرهابية لا زيادتها"، وتحدث كوربن عن وجود ارتباط بين انخراط المملكة المتحدة في حروب خارجية وبين الإرهاب في الداخل. وقال كوربن إن "الكثير من الخبراء، بما في ذلك المتخصصون في مجالات الأمن والاستخبارات، ربطوا بين الحروب التي انخرطت فيها بريطانيا أو دعمتها أو شاركت فيها في الخارج والإرهاب في الداخل". وأضاف "اللوم يقع علي الإرهابيين بالطبع لكننا أيضا يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا بشأن ما يهدد أمننا بالفعل"، ووعد كوربن بالتراجع عن القرارات - التي اتخذت في ظل حكومة المحافظين- بشأن خفض نفقات الشرطة. وأوضح "سنغير سياساتنا في الداخل وفي الخارج"، مضيفا أن حكومته ستسلك نهجا مختلفا في السياسة الخارجية من ناحية وتجاه ميزانية الشرطة والخدمات الأمنية وخدمة الرعاية الصحية الوطنية "إن إتش إس" من ناحية أخري". وفي بداية خطابه، أشاد كوربن بردود الفعل »الملهمة» وبأولئك الذين هبوا لتقديم يد المساعدة في أعقاب الهجوم "الإرهابي شديد القسوة". وأضاف قائلا إن الإرهاب "لن يفرقنا ولن ينتصر". غير أن معارضين له انتقدوا التوقيت الذي اختاره لتلك التصريحات، حيث وصف بن والاس وزير الأمن البريطاني في حكومة المحافظين اختيار كوربن لتوقيت تصريحاته بأنه "مروع". وقال والاس "يجب أن نكون واضحين ولا نستخدم الأعذار أو المنطق الملتوي حول السياسة الخارجية أو الداخلية، الحقيقة هي أن هؤلاء الناس يكرهون القيم الغربية"، وأضاف كل ما دون ذلك يجعل هؤلاء الأشخاص "يظنون أن أفعالهم ربما تكون مبررة، لكنها ليست كذلك". لكن كوربن استدرك قائلا إنه "لا يرغب في كسب نقاط سياسية في وقت يجب أن يتضافر فيه البريطانيون"، مشيرا إلي أن "الفهم المستنير للأسباب التي أدت إلي الإرهاب جزء لا يتجزأ من طريق حماية أمننا ومواطنينا"، وأضاف أن دور السياسات يجب أن يتمثل في "محاربة الإرهاب لا تغذيته"، متعهدا باتخاذ كافة الإجراءات الممكنة "لحماية بلادنا". ومن جانبه، قال تيم فارون زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي إن كوربن استخدم هجوم مانشستر ليحقق "مكاسب سياسية".