تكاد تصل مكانة ابن سيرين في تفسير الأحلام إلي مكانة البخاري في علم الحديث فهناك اجماع شبه كامل علي أن الرجل قد تميز بين جميع أقرانه من السابقين واللاحقين في تفسير الأحلام، فعد علما في بابه متفردا في مجاله ومازال كتابه يعد وبحق اشهر كتب تفسير الأحلام العربية علي الإطلاق وأكثرها مبيعا لدرجة ربما تصل إلي وجود نسخة من هذا الكتاب في كل بيت عربي، لكن ما هو شعور كل من يقتني نسخة من كتاب "ابن سيرين" إذا علم أن كتاب »تفسير الأحلام« ليس من تأليف ابن سيرين وأن من ألف الكتاب ولد بعد وفاته بعشرات السنين، وهو ما كشفه الداعية الإسلامي الشيخ خالد الجندي. كتاب ابن سيرين المشهور لدي كافة الناطقين بالعربية والمتداول بينهم باسم كتاب تفسير الاحلام منسوب خطأ لابن سيرين. والصحيح أن هذا الكتاب المتداول ليس من تأليف ابن سيرين فمع كثرة ثناء العلماء علي ابن سيرين وفي تراجمهم له لم يذكر أحد منهم قط أنه ألف كتابا لتفسير الأحلام هذا بالإضافة إلي أن ابن سيرين وبرغم معرفته بالكتابة فإنه لم يكتب بنفسه بل كتب عنه تلامذته. وحتي لو افترضنا أن الكتاب وضعه ابن سيرين فعلا فهو لا يخرج عن كونه تأملات وافتراضات واستنتاجات شخصية لابن سيرين ولا يدخل في نطاق العلوم المؤكدة الراسخة , وكون ابن سيرين كان عالما وفقيها في الدين لا يعطي كتابه في تفسير الأحلام قداسة دينية وإنما ينظر له علي أنه جهد واجتهاد بشري يقبل الصحة والخطأ . كما أن الرموز التي بني عليها ابن سيرين تفسيراته كانت تناسب البيئة التي عاش فيها والمجتمع الذي انتمي إليه , وقد تغيرت الرموز واستحدث الكثير منها ففي حياتنا الآن العديد من أجهزة التكنولوجيا وكلها خارج نطاق ابن سيرين . ومع كل هذه الاعتبارات فإن مَنْ يقرأ كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين يلمح محاولة هائلة لفك ألغاز الأحلام في هذا الوقت المبكر ويلمح جهداً أصيلاً بذل في هذا الأمر يستحق الاحترام رغم أي اختلاف مع محتواه فهو في النهاية جهد بشري متميز . وقد أكد المفكر الاسلامي حسن سلمان في كتابه " كتب حذر منها العلماء " علي عدم صحة نسبة هذا الكتاب إلي ابن سيرين، والصحيح أن كتاب تفسير الاحلام المشهور بيننا حاليا هو للعالم الفقيه الشافعي عبد الملك بن محمد الخركوشي النيسابوري المعروف بأبي سعد الواعظ، المتوفي سنة 407ه. فكيف جاءت تلك الأكذوبة التي تحولت إلي حقيقة مع مرور الوقت. يرجع سبب نسبة الكتاب إلي ابن سيرين دون غيره إلي اشتهار التابعي أبوبكر محمد بن سيرين البصري (المتوفي سنة 110هجريا) بتفسير الأحلام دون غيره من التابعين أمثال الحسن البصري وسفيان الثوري وسعيد بن المسيب، علي الرغم من أن كتب التاريخ تشيد بعلم ابن سيرين وفقهه، فقد أجمع العلماء علي أنه لم يكن أحد بالبصرة أعلم بالقضاء من ابن سيرين في عصره، وقال عنه مورق العجلي:" ما رأيت أحدا أفقه في ورعه ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين". أما عن سبب اشتهار ابن سيرين بتفسير الأحلام فترجعه كتب التاريخ إلي حادثة تعرض لها ابن سيرين في شبابه عندما كان يعمل بزازاً (بائع أقمشة)، ومرّ يوماً في زقاق فسألته امرأة: ماذا لديك من بضاعة؟ قال: أبيع الأقمشة. فقالت له: ادخل المنزل حتي اختار القماش الذي أريد، فلما دخل اغلقت المرأة الباب وقالت: يجب أن تلبي طلبي. وكان ابن سيرين شابا نجيباً ولم يرتكب رذيلة ابداً وكان يقول: كنت أغض بصري إذا رأيت في المنام امرأة أجنبية (غير محرمة). ولمّا أصرت تلك المرأة علي ابن سيرين ليفعل ماتريد، قال لها: حسناً دعيني أذهب إلي المستراح (الخلاء) كي أتهيأ وأعود، فذهب ولطخ نفسه بالنجاسة، ثم رجع إليها فاشمأزت منه وأخرجته، وهكذا تخلص من المعصية. فمنحه الله بعد ذلك القدرة علي تفسير الأحلام. ومن هنا جاء اشتهار ابن سيرين بتفسير الأحلام حتي التصق به وعرف به، وبدأ في تفسير الأحلام للراغبين في ذلك. أما عن الكتاب المنسوب لابن سيرين فهو لايمت لابن سيرين بصلة لأن ابن سيرين توفي في بدايات القرن الثاني للهجرة في وقت كانت الرواية الشفهية هي المسيطرة علي حياة المسلمين الفكرية والدينية فلم تكن فكرة تأليف الكتب قد بدأت بعد، لذلك نجد أن أقدم الكتب في الفقه وصلنا وهو كتاب "الموطأ" للامام مالك وصل إلينا عن طريق الرواية الشفهية أي حفظ النص كاملا وتناقله بالرواية حتي حفظ في شكل كتاب في مطلع القرن الثالث الهجري وهي الفترة التي شهدت بداية التدوين في تاريخ الحضارة الإسلامية، فعلي هذا تكون نسبة كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين (المتوفي سنة 110ه) غير صحيح وغير ممكن لان تأليف الكتب ظاهرة ظهرت بعد وفاة ابن سيرين بسنين. أهم ما نسب إلي ابن سيرين في الكتاب هي الشروط التي يجب ان يعرفها من يريد تفسير الأحلام، فيقول: "إن الرؤيا لما كانت جزءًا من ستة وأربعين جزءا من النبوة، لزم أن يكون المعبر عالمًا بكتاب الله ، حافظًا لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم خبيرًا بلسان العرب واشتقاق الألفاظ، عارفًا بهيئات الناس، ضابطًا لأصول التعبير، عفيف النفس، طاهر الأخلاق، صادق اللسان؛ ليوفقه الله لما فيه الصواب ويهديه لمعرفة معارف أولي الألباب". ويري ابن سيرين أن الرؤيا قد تُعبّر باختلاف أحوال الأزمنة والأوقات، فتارة تعبر من كتاب الله ، وتارة تعبر من حديث رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كما قد تعبر بالمثل السائر. فأما التأويل من القرآن فكالبيض يُعبّر عنها بالنساء ، لقوله تعالي: "كأنهن بيض مكنون"، وكالحجارة يعبر عنها بالقسوة، لقوله تعالي: "ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة". وأما التأول من حديث النبي (صلي الله عليه وسلم) فكالضلع يعبر عنه بالمرأة؛ لأن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) قال: "المرأة خُلقت من ضلع أعوج"، وكالفأرة يعبر عنها بالمرأة الفاسقة لقوله (صلي الله عليه وسلم) "الفأرة فاسقة"، وكالغراب الذي يعبر عنه بالرجل الفاسق؛ لأن النبي (صلي الله عليه وسلم) سمّاه فاسقًا. هذا التأصيل الذي قدمه الكتاب هو المعتمد الأساسي لدي جميع المشتغلين بتفسير الأحلام ودستورهم اذا صح التعبير. أما الكتاب نفسه فمؤلفه علي الأرجح هو عبد الملك بن أبي عثمان محمد بن إبراهيم الخركوشي، أبو سعد النيسابوري، الفقيه الشافعي، الواعظ. أخذ فقه الشافعي في حداثة السنّ عن أبي الحسن الماسَرْجِسي، ورحل إلي بغداد ودمشق وجاور بمكة، ثم رجع إلي نيسابور وقد اشتهر وبعد صيته. وكان كثير الإِحسان للفقراء، بني داراً للمرضي، ووقف الأوقاف. وتوفّي الخركوشي بنيسابور في جمادي الاَولي سنة ستّ وأربعمائة. وألف الخركوشي كتباً، منها: دلائل النبوّة، الزهد، تهذيب الأسرار في أصول التصوف، وتفسير كبير. وكتاب "البشارة والنذارة في تفسير الاَحلام" وهو ما يهمنا هنا، فشهرة ابن سيرين في مجال تفسير الاحلام دفعت البعض إلي نسبة بعض آرائهم في تفسير الأحلام إلي ابن سيرين باعتبار أن هذا يعطي لتفسير الرؤيا مصداقية أكبر لدي الجمهور وهو ما يجعلهم يدفعون الأموال بسخاء علي مفسري الأحلام، من هنا وجدنا هذا الكم المتزايد من فتاوي التفسير المنسوبة لابن سيرين اذا سئل عنها ابن سيرين لتبرأ منها، وهي الفتاوي التي جمعها الخركوشي في كتابه دون تدقيق باعتبار انها ليست قرآنا ولا أحاديث شريفة حتي يحتاط في روايتها، بعد ذلك بدأ باعة الكتب في الترويج للكتاب علي أنه من تأليف ابن سيرين لضمان بيعه في اقصر وقت ممكن، ومع مرور السنين وتعاقبها نسب الكتاب كله لابن سيرين.