يحل شهر رمضان الكريم علي الأرض كلها حاملا معه نفحات ربانية يستقبلها البشر بعادات وتقاليد تسعي للاحتفاظ بروحانية الشهر وتكثيف بركته في المكان، لتمتزج الطقوس الدينية بالروح الخاصة لكل شعب من الشعوب الصائمة، ما يجعل لرمضان في كل بلد قصة وحكاية، تعبر عن احتفال الصائمين بالشهر الكريم من جهة، وتروي ثقافة وحضارة كل شعب من هذه الشعوب من جهة أخري، "دين ودنيا" ترصد بعض مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم في بعض بلدان العالم. فعبر أجيال تم تناقل العديد من العادات والتقاليد المرتبطة بالشهر المبارك، فالشعوب الإسلامية ارتبطت بشهر رمضان بعلاقة روحية متينة، وعشق أزلي يتجدد مع كل عام جديد، ينتظره الكبار والصغار بشوق وفرح، تتفق الشعوب علي أصول العبادة فالصيام في وقته بالامتناع عن الطعام والشراب، لمنها اختلفت في التقاليد وطبائع الاحتفال لتعطي من مظاهر الاحتفال بالشهر الكريم ألف صورة وصورة بحسب تغير البلدان والأصقاع والشعوب والقبائل. ورغم الحرب الدائرة إلا أن سوريا تعرف كيف تنتصر علي آلامها في شهر الصوم، فدمشق إحدي أعرق المدن الإسلامية، ترتدي أبهي حللها لاستقبال الشهر المبارك، فأهل دمشق توارثوا عادات وتقاليد عريقة للاحتفال بالشهر تعود إلي قرون خلت، فالدمشقيون يحرصون علي إحياء صلاة التراويح في المسجد الأموي الكبير وغيره من المساجد التاريخية، ومن أهم العادات الدمشقية أن يجتمع أفراد العائلة بعد أداء الصلاة عند كبير العائلة الذي يتحول بيته إلي ملتقي العائلة طوال أيام الشهر الكريم، ويعد مدفع الإفطار من الطقوس الأساسية في دمشق، إذ يوجد بها 17 مدفعا بعدد أحياء المدينة، تضرب مع حلول وقت الإفطار. والمائدة الدمشقية عامرة، والبداية تكون مع شوربة العدس التي تعد من أهم الأطباق في رمضان دمشق، وتحظي المتبلات والفتوش بأهمية خاصة لدي أهالي المدينة، وتعد الكبة والمحاشي من الأطباق الأساسية أيضا، ومن أشهر المشروبات الدمشقية العرق سوس والتمر الهندي وقمر الدين، وهي مشروبات ثلاثة لا تخلو منها مادئة دمشقية، وتشتهر دمشق بجودة صناعتها للحلويات الشرقية، التي تحظي بإقبال في رمضان الكريم، ومن المعروف أن في دمشق ظهرت الكنافة لأول مرة، فقد تم صناعتها بناء علي نصيحة الأطباء للخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان لكي يتحمل مشقة الصوم، ومن دمشق غزت الكنافة العالم الإسلامي وأصبحت أحد الأطباق الرئيسة في رمضان. وتعد مدينة حلب عروس الشام، فهي إحدي أعرق مدن الهلال الخصيب، وتعد طقوس الاحتفال بشهر رمضان صورة معبرة عن الاحتفال بشهر الصوم في سورية كلها، فالعامل علي مدفع الإفطار في حلب يسمي الطوبجي، بينما يطلق علي المسحراتي لقب "المطبل" لأنه يستخدم الطبلة في يده اليسري والعصا بيده اليمني ويطوف علي أبناء الحي وينادي عليهم فردًا فردًا، كما تتزين الحمامات العامة القديمة في حلب لاستقبال شهر رمضان، إذ يعد زيارة الحمامات قبيل الشهر الفضيل من الطقوس المعروفة لدي أهالي حلب، ويرتاد أهل الشهباء الأسواق التاريخية لشراء احتياجاتهم الرمضانية، استعدادا لإعداد المائدة الحلبية التي تعد من أكثر الموائد العربية تنوعا بكل ما لذ وطاب. وتضم المائدة الحلبية الكثير من الأطعمة التي تتفنن في صناعتها المرأة الحلبية، فتجد علي المائدة المسقعة بمختلف أنواعها، واللحوم من المشوي والمطجن والمكمورة (وهي اللحم المسلوق بالبصل والتوابل)، والخضار المطبوخ مثل الملفوف والملوخية، ناهيك طبعا عن المقبلات الحلبية الشهيرة، ورغم هذا التنوع الذي تعرفه المائدة الحلبية فإن أهل الشهباء يفضلون الإفطار علي التمر واللبن أو قمر الدين ثم يصلون صلاة المغرب، ويعودون بعدها لتناول الطعام. وفي الجزائر تظهر عدة طقوس خاصة بأهلها في شهر رمضان، إذ يتجه الجزائريون بعد مضي عشرة أيام من شهر شعبان إلي محال الحجامة إذ يرون أن الحجامة تساعد الجسد علي استقبال الصيام، وتزيد من قدرته علي تحمل العطش، وقد انتقلت عادة استخدام المدفع لإعلان حلول موعد الإفطار من مصر إلي الجزائر ومختلف بلدان المغرب العربي، ولا يقول أهل الجزائر حان موعد الإفطار بل يقولون حانت "ضربة المدفع" لارتباطهم الشديد بهذه العادة الرمضانية، كما يحرص الجزائريون علي زيارة مقامات الأولياء والمساجد والحلقات الصوفية المختلفة طوال الشهر الكريم. أما الشعب التركي فيستقبل رمضان بكل مظاهر الترحيب إذ تتزين مساجد إسطنبول التاريخية ويتم إنارة مآذنها المحلقة في الفضاء، ويكتب عليها "أهلا بك يا رمضان يا سلطان الشهور"، ويحرص الشعب التركي علي قراءة القرآن الكريم طوال أيام الشهر، وزيارة المساجد الكبري لإحياء صلاة التراويح، ويتبادل أبناء تركيا عبارة "مبارك عليكم رمضان"، للتهنئة بحلول الشهر، ومن أشهر العادات التركية الخروج بطعام الإفطار إلي المتنزهات المحيطة بالمساجد التاريخية لتناول الإفطار في جو أسري، ومن الأطعمة التي تصنع خصيصا في رمضان بتركيا خبز "بيدسي" وخبز "بيدا"، ويقبل الأتراك علي تناول القطائف والكنافة والجلاش والبقلاوة فضلا عن كباب الحلة والكباب والتبولة وغيرها من المقبلات. وتعد صلاة التراويح من أهم معالم شهر رمضان الكريم في إندونيسيا وماليزيا ومعظم دول جنوب شرقي آسيا المسلمة، إذ يحرص الملايين في إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم علي الاحتفال بشهر الصوم عبر المواظبة علي أداء صلاة التراويح، ويشهد جامع الاستقلال بالعاصمة جاكرتا حضور مئات الآلاف من المصلين الذين يحضرون لأداء صلاة التراويح كل يوم طوال شهر رمضان، ويعد جامع الاستقلال رابع أكبر مسجد في العالم، وأكبر مسجد في جنوب شرق آسيا. ويحرص الإندونيسيون علي استقبال شهر رمضان بتزيين منازلهم والشوارع، فيما تغلق المطاعم والمقاهي أبوابها طوال ساعات النهار ولا تفتح إلا بعد أذان المغرب، ويتم الإعلان عن حلول شهر رمضان عبر احتفالية في شوارع المدن الإندونيسية باستخدام الطبول الضخمة تسمي "البدوق"، كما تقرع هذه الطبول طوال شهر رمضان قبيل أذان المغرب، وتعد "البدوق" من أهم معالم شهر رمضان في إندونيسيا، وهي توازي مدفع رمضان في مصر والعالم العربي. أما عن الطعام في رمضان، فيحرص أهالي إندونيسيا علي إحياء سنة النبي صلي الله عليه وسلم، عبر تناول التمر واللبن علي مائدة الإفطار، كما يتناولون الأرز بمشتقاته، إذ يعد الأرز أحد المكونات الرئيسية للمائدة في دول شرق آسيا، ويحرص أهالي إندونيسيا علي تناول مشروبات طبيعية خاصة تلك المنعشة لتحمل ساعات الصيام، فيما تتحول البطاطا إلي نجمة المائدة الرمضانية، إذ تدخل في صناعة حلوي رمضان في إندونيسيا. وتعد موائد الرحمن داخل المساجد من أهم معالم شهر رمضان في ماليزيا وهي إحدي كبري الدول الإسلامية في جنوب شرق آسيا، فبحسب التقاليد الماليزية ما إن يؤذن لصلاة المغرب حتي يندفع أهل الكرم إلي الجوامع بكل ما لذ وطاب من الأكل والمشروب ويتم وضع مفارش بطول ساحات المساجد وفي أروقتها ويتم دعوة الناس إلي الإفطار الذي يأخذ شكلا جماعيا، ويتم تقديم وجبة "بوبور لامبو" الشعبية المكونة من الأرز واللحم والتوابل، وهي وجبة لا تقدم إلا في رمضان قط. وبعد انتهاء الإفطار يتوجه الجميع لأداء صلاة التراويح في مساجد ماليزيا العامرة، وسط رائحة البخور التي تغطي المساجد الماليزية، ثم يعقب صلاة التراويح عقد مجالس العلم والذكر وحلقات تلاوة القرآن الكريم، حتي تحين صلاة قيام الليل، ثم يمضي المصلون إلي بيوتهم بعد تناول المشروبات المصنوعة من الفواكه الطازجة، ويهتم الماليزيون بتزيين بيوتهم احتفالا بالشهر الكريم، وتمتد الزينة إلي الشوارع كما يحرص أصحاب المحال التجارية علي رفع لافتات ترحب بمقدم شهر الصوم، وضمن طقوس الاحتفال برمضان أن تمتد الأسواق الشعبية المسماة ب "بسار رمضان" وهي مخصصة لبيع كل ما له علاقة من أطعمة ومشروبات تتعلق برمضان. أما مظاهر الاحتفالات في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية فتختلف بحكم أن هذه الدول غير مسلمة، لذلك تستغل الجالية المسلمة فرصة الشهر الكريم من أجل مد جسور التواصل بين أبناء الجالية المسلمة في كل دولة أوروبية، والعمل علي تقديم صورة الإسلام الحضارية بعيدا عن الصور النمطية، والطريف أن شهر رمضان يتحول إلي كرنفال إسلامي لأن أبناء الجالية المسلمة من بلدان مسلمة مختلفة، فيحمل كل منهم عادات بلاده في الاحتفال بالشهر الفضيل ليتم تبادل طقوس الشعوب الإسلامية في أجواء عائلية قريبة من أجواء البيئات الأصلية لأبنائهم. ومن أهم ما يحرص عليه أبناء الجالية المسلمة في أوروبا وأمريكا هو الاجتماع في مقرات الجالية المختلفة والعمل علي أداء صلاة التراويح في المساجد القريبة من المقرات من أجل التواصل والتراحم بين أبناء المسلمين، ويستغل المسلمون في أوروبا وأمريكا شهر رمضان في حث أبنائهم علي تعميق معرفتهم بالدين الإسلامي وتعلم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم، إذ يشاركون في حلقات لترتيل القرآن تنظم في معظم المساجد في أوروبا، ومن أطرف مشاهد الاحتفال برمضان في أوروبا امتلاء المقاهي الشرقية في المدن الغربية بالمرتادين الذين يستعيدون ذكري جلساتهم مع الأهل والأصدقاء في مقاهي القاهرةودمشق وبغداد.