في ظل الضغوط العصبية التي نتعرض لها في حياتنا اليومية تغيب ثقافة التأمل والاسترخاء عن مخيلتنا، فالكثير من أمراض العصر سببها حالة القلق وعدم القدرة علي إراحة البال من الهموم، ومن ثم يكون الحل الوحيد في الابتعاد عن مسببات التوتر والعودة إلي الطبيعة ومكوناتها التي تساهم في شفاء الجسد والروح، هنا يجد البعض ضالته في طرق علاج غير تقليدية، عبر الاستشفاء في كهوف الملح في تجربة فريدة من نوعها، فالثابت علمياً أن الملح الصخري له قدرة فائقة علي معالجة أمراض الجهاز التنفسي، فضلا عن تشتيت الشحنات السلبية الضارة بجسم الإنسان. بدأت فكرة العلاج في كهوف الملح الطبيعي في القارة الأوروبية منذ القرن 18 قبل الميلاد، وبالتحديد في دول شرق أوروبا مثل روسيا وبولندا لما تتمتع به من مقومات طبيعية تشتمل علي وجود مناجم الملح، حيث كان العلاج يتم عن طريق إدخال المرضي لكهوف الملح الصخري لاستنشاق جزيئات الملح للتعافي من الأمراض الجلدية، وازدهرت هذه الطريقة بعد قيام الحرب العالمية وتحديدا بعد واقعة سقوط بعض الجنود الألمان في أحد مناجم الملح الطبيعي أثناء عودتهم من روسيا، وبعد رجوعهم إلي وطنهم لوحظ شفاؤهم من أمراض الجهاز التنفسي، ومن هنا بدأ تطبيق فكرة العلاج بالملح في العديد من الدول ومنها الولاياتالمتحدة وفنلندا عبر إنشاء كهوف صناعية من الملح كمكان صحي للاستشفاء، وبعدها انتشرت الفكرة في باقي أنحاء العالم. ورغم وجود مناجم طبيعية للملح الصخري في واحة سيوة يمكن الاستفادة منها في إقامة كهوف ملحية للعلاج الطبيعي في مصر إلا أن الفكرة لم تجد انتشارا سوي في نطاق محدود في المنتجعات السياحية المصرية. جمعة العقوري أحد أبناء القبائل البدوية في سيوة، قرر خوض تجربة بناء أول كهف ملحي عند هضبة الأهرام بالجيزة، مستفيدا من دراسته لعلم الآثار ومعرفته بتاريخ استخدام الملح في العصور القديمة، حيث أطلق علي كهف الملح اسم »خوفو» تيمنا بالحضارة الفرعونية التي تعتبر من أول الحضارات التي استخدمت الملح لأغراض العلاج والتجميل، كاشفاً عن سبب اختياره هذه البقعة تحديداً لإقامة كهف الملح لقربها من المناطق السكنية والأثرية في وقت واحد بغرض نشر ثقافة الاستشفاء بالملح. »آخرساعة» تواصلت مع مالك كهف الملح »خوفو» للوقوف علي تجربة العلاج بالملح عن كثب، وزارت الكهف، وهو عبارة عن منتجع يقع في طابق أرضي يضم حماما خاصا وغرفة الكهف الرئيسية، وهي مقسمة لعدة أجزاء منها جزء مخصص للأطفال. قبل الدخول إلي غرف الكهف لفتت انتباهنا حجرة تضم مجموعة من الهدايا التذكارية علي شكل مصابيح وشموع ملحية، أوضح العقوري أنها تساعد علي تجديد الطاقات الكامنة بجسم الإنسان، فعندما يشعر المرء بالإرهاق ويجلس بعد ذلك أمام البحر يزداد شعوره الإيجابي نتيجة استنشاقه رذاذ المياه الملحية، وكذلك الحال عند استخدام المصابيح المصنوعة من الملح، فعند تعريضها للحرارة تبدأ المواد المعدنية الموجودة بداخلها مثل الصوديوم والكالسيوم واليود بالتطاير فتقوم بتعقيم الجهاز التنفسي من البكتريا والسموم، فضلا عن امتصاصها للذبذبات الضارة التي تخرج من أجهزة الكميوتر أو التليفون المحمول، لذلك هي تحظي باهتمام السائحين الذين يحرصون علي اقتنائها. غرف الملح داخل الكهف صُممت بطريقة هندسية مبتكرة لتوحي للزائر بأنه داخل منجم ملحي حقيقي، بهدف مساعدته علي الدخول في حالة من السكينة، وعلي أطراف الغرف توجد إضاءة خافتة موزعة بين عدة ألوان منها اللون الأزرق والسماوي مع اللون الأبيض والبرتقالي، فيما تنتشر مقاعد وأرائك صغيرة مخصصة للزائرين علي أرضيات من الملح المجروش الذي يساعد علي امتصاص الحرارة، وتم بناء حوائط الكهف من كتل الملح الصخري التي تم صقلها علي هيئة قوالب مربعة متراصة فوق بعضها البعض، فيما يأخذ سقف المكان شكل الهوابط الجبلية لإعطاء محاكاة للطبيعة داخل كهوف الملح. الجلسة العلاجية بداخل كهف الملح تستمر لمدة خمس وأربعين دقيقة علي مدار ستة جلسات وتعتمد علي الاسترخاء التام علي أنغام الموسيقي الهادئة للاستفادة من تشبع الجو بالميكرونات وأيونات الملح الطبيعي، ويشرح لنا جمعة العقوري أن العلاج له شق نفسي يساهم في مرحلة الشفاء، يتمثل في كيفية تنظيم عملية التأمل أثناء الجلسة التي تبدأ بإغماض العينين وإبطاء التنفس للوصول إلي حالة من الهدوء الداخلي، ومن ثم إعطاء العقل أمرا بالتوقف عن التفكير السلبي في المشاكل اليومية والتركيز فقط علي الأفكار الإيجابية، فيبدأ الجسم في التخلص من الشحنات السلبية. وعن سبب انتقائه لصخور الملح المستخرج من واحة سيوة لإقامة كهف الملح أشار إلي أن المنطقة الممتدة من صحراء مصر الغربية حتي الحدود مع ليبيا غنية بمحاجر الملح الصخري الطبيعي الذي يصدر إلي العديد من الدول العربية والأوروبية لكونه من أنقي أنواع الملح علي مستوي العالم واحتوائه علي حوالي أربع وثمانين مادة طبيعية، منها اليود والكالسيوم المفيدة للغضاريف والمفاصل كما أنه يحسن من عملية التنفس لذلك ينصح الأطباء في أوروبا مرضي حساسية الصدر والربو بالاستشفاء في كهوف الملح كنوع من العلاج التكميلي بجانب الدواء الأساسي وهذا بجانب أن كهوف الملح لها دور فعال في معالجة الأمراض الجلدية. ومع ذلك لا يوجد في مصر سوي خمسة أماكن تضم كهوفا ملحية منها ما هو موجود حاليا في مدينة طابا وشرم الشيخ وفي الجيزة والعين السخنة وكذلك في الغردقة. ويلفت جمعة العقوري إلي أن بعض المعتقدات في التراث الشعبي خاصة التي تقضي بإلقاء الملح علي العروسين ليلة الزفاف منعا للحسد، لها جذور تاريخية في العصور المصرية القديمة، حيث كان الملك عند قيامه ببناء معبد من المعابد الفرعونية يقوم بإمساك حفنة من الملح في يده ويبدأ في نثرها في أركان المعبد عند افتتاحه بسبب الاعتقاد السائد أنذاك بأن مادة الملح قادرة علي تطهيره من الأرواح الشريرة فضلاً عن إبعاد العقارب والثعابين والحشرات من هذا المكان، كما تم استخدام الملح من قبل ملكات مصر كعنصر تجميلي ومادة مقشرة للجسم، وأبرز مثال علي ذلك حمام الملكة كليوباترا في واحة سيوة الذي يضم بين مكوناته المياه الكبريتية والأملاح التي تعمل علي تنقية المسام فضلاً عن تخليص الجسم من السموم بصورة طبيعية، وقد أثبت العلم الحديث أن أحد أهم المواد التي استخدمت في عملية التحنيط وحفظ الأجسام هي الملح المستخرج من الصحراء الغربية ووادي النطرون، وفي العصور الرومانية واليونانية كانت صخور الملح تعتبر من أعلي المواد قيمة، وكانت تستخدم في حفظ الطعام عن طريق لفه بالملح ووضعه أسفل سرج الخيول نظرا لطول فترة الحروب ومن ثم كانت هذه الطريقة فعالة في منع إمدادات الطعام من التعفن، ومن هذا المنطلق بدأت الشعوب الأوروبية في الانتباه لأهمية وفوائد الملح الطبيعية واستقاء العلم من الحضارة المصرية القديمة. كما أوضح أن بداية تنفيذ مشروع كهف الملح واجهت بعض الصعوبات منها كيفية إيصال الفكرة إلي المجتمع، نظراً لأنها مرتبطة بثقافة جديدة علي المصريين، يضاف إلي ذلك أن بناء كهف الملح بدأ في عام 2013 وهي فترة لم يكن بها رواج سياحي، لذلك قام بالتشاور مع صديقه الذي يمتلك أحد منتجعات الكهوف الملحية بشرم الشيخ حول المشروع وتم الاستقرار علي الاستمرار به، لافتا إلي أن الإعلام المصري والأجنبي له فضل كبير في الدعاية للمكان، هذا بجانب شهادات من قام بزيارة كهف الملح وتأثر بالنتائج الإيجابية للعلاج. وينصح جمعة العقوري بالعودة الي استخدام الطرق التقليدية لتنقية الجسم من السموم من خلال غسل اليدين والقدمين بالماء والملح، وتدليك الجسم بزيت الزيتون ثم البقاء في المياه الدافئة التي تحتوي علي الملح الصخري لمدة ثلث ساعة عند الاستحمام. كما كشف عن وجود خطط مستقبلية للتوسع في بناء منتجعات الملح داخل مصر من خلال إنشاء أول فندق يتم بناؤه من الملح بالكامل بالقرب من الأهرامات وذلك علي غرار فنادق الملح الموجودة في واحة سيوة وفنلندا، وسيعتمد الفندق علي مبادئ صحية منها منع استخدام المحمول أو التدخين. ويناشد العقوري الدولة تقديم الدعم اللازم لهذا النوع من السياحة العلاجية وإعطاء فرصة للشباب لتطبيق أفكارهم من أجل الارتقاء بالسياحة وإعادتها إلي الخريطة العالمية مرة أخري لتساهم في تعافي الاقتصاد المصري.