لم يبق لمصر من عظمتها القديمة إلا القليل.. التاريخ يئن ويصرخ من العبث بذاكرته.. والمسئولون في وزارة الآثار هم أنفسهم من يدمرون المواقع الأثرية بإهمالهم.. والدليل علي ذلك ما حدث في مقصورة الإلهة حتحور بمعبد حتشبسوت الجنائزي في البر الغربي بالأقصر. هذه المقصورة التي تحكي أهم فترة في حكم حتشبسوت بدأت الأملاح تنخر في حوائطها وتمحو تاريخ سجِّل علي جدران المقصورة مع سبق الإصرار والترصد وأمام أعين مفتشي الآثار. آخرساعة قامت بجولة في البر الغربي بدأتها من القرنة مرورا بمعبد أمنحوتب الثاني، آثارنا شامخة تحكي تاريخا مازالت حكاياته لم تنتهِ, هنا وادي الملوك ووادي الملكات في قلب الجبل الذي مازال فيه أسرار لم تخرج بعد.. نتجه بعد ذلك إلي معبد حتشبسوت الذي يؤكد علي عبقرية المهندس المصري الفرعوني الذي نحت المعبد في حضن الجبل، بانوراما عبقرية الإنسان المصري القديم تتجلي في هذا المعبد الذي تحيط به مقابر النبلاء. يصطحبنا مفتش الآثار، شخص رائع يحفظ تاريخ حتشبسوت رغم أن عمله ليس في هذا المكان ولكن وجوده كان لسد فراغ زميل له تعرض لظرف منعه من الحضور، يأخذنا مفتش الآثار في جولة داخل أروقة المعبد ليشرح لي في حجرة الميلاد، ميلاد الملكة حتشبسوت التي تم تشويه وجهها بالكامل وقام ابن زوجها بعد وفاتها بتدمير كل ما يشير إليها ومحا اسمها، وعلي مدي العقود الماضية، كشف الباحثون عن توصلهم لأدلة أكثر حول حكم الإناث في مصر خلال فترة 1400 قبل الميلاد. المعبد يبدأ بطريق أحيط من الجانبين بتماثيل الملكة في هيئة أبي الهول كما غرست أشجار النخيل وأحواض البردي علي الجانبين وتحول الجبل إلي واحة خضراء رغم بعده وارتفاعه عن الوادي، وبعد تخطي الفناء السفلي والشرفة الأولي نصعد الفناء العلوي المكشوف أيضاً ثم إلي طريق صاعد تقع في نهايته مقصورة تعرف ببهو الميلاد، وعلي اليسار صورت رحلة بحرية إلي بلاد بونت. مقصورة حتحور هي جزء أنيق من المعبد الجنائزي للملكة حتشبسوت، تقع علي الجانب الجنوبي من الشرفة الثانية للمعبد ولها مدخل منفصل, ولقد كرست المقصورة للمعبودة حتحور، إلهة الحب والموسيقي والجمال، التي صورت مرات كثيرة علي الجدران بهيئتها الحيوانية في شكل بقرة متوجة بقرص الشمس. توجد صورة نصفية للمعماري »سننموت» الذي بني المعبد؛ وكأنما هو أراد أن يسهم سحرياً في ديانة حتحور. ومن الجدير بالذكر أن تصوير شخصية كبيرة علي جدران معبد، يعدُّ بالغ الندرة في الفن الديني المصري القديم, وأكثر عناصر المقصورة جاذبية هي تيجان الأعمدة التي زيِّنت برأس المعبودة حتحور في شكل امرأة جميلة، ولكن بأذني بقرة. رصدنا بالكاميرا الأملاح وهي تأكل الإلهة حتحور, فقد اختفت الرسوم الموجودة علي المقصورة وبدأت الأملاح تأكل ما يقف أمامها كأنها تتعمد هي الأخري طمس تاريخ الملكة حتشبسوت التي تآمر عليها ابن زوجها وطمس تاريخها. مفتش الآثار قال سوف أرسل مذكرة إلي المسئولين لاستعجال ترميم المقصورة, لماذا هذا الخوف الذي انتاب مفتش الآثار ولماذا عقابه؟ هل يدرك أنه قصّر في إهمال مقصورة الإلهة حتحور التي تهالكت جدرانها بفعل الأملاح التي تمحو في طريقها تاريخا مهما من تاريخ مصر. في مشهد الولادة المقدسة يعتقد البعض أن مناظر الولادة المقدسة كانت من الأسباب الهامة التي من أجلها شيِّد هذا المعبد. فإنه من المعروف أن الهدف الأول من إقامته أن يكون مكرّسا في المقام الأول للإله آمون ويعبد فيه بجانبه كل من رع حور آختي وأنوبيس , والإلهة حتحور، أما الهدف الثاني فهو أن يكون هذا البناء الضخم معبدا لتخليد ذكراها وذكري والديها. والهدف الثالث والأخير أن تسجل علي جدرانه أسطورة مولدها المقدس وأن تثبت أن والدها هو الإله آمون وليس تحتمس الأول، وذلك بعد أن اغتصبت العرش من الملك تحتمس الثالث، ولهذا اتخذت حتشبسوت كل الخطوات الضرورية لتثبيت حكمها وأن يكون هذا المعبد بمثابة دعاية لأحقيتها للعرش، فسجلت علي جدرانه أن الإله آمون قد أمر بتتويجها. وبهذا أصبحت حتشبسوت ملكة علي مصر، وقامت بدور الإله حورس ومثلته علي الأرض واتخذت لنفسها لقب »ابن الشمس»، بل وتشبهت بمظهر الرجال وارتدت زيهم، كما استعملت الذقن الملكية المستعارة الخاصة بالملوك. كل هذا كان من الأسباب التي دعت تحتمس الثالث بعد وفاة حتشبسوت أو بعد القضاء عليها أن يصب غضبه علي آثارها، فقد حطم أتباعه تماثيلها وكشطو أسماءها وشوّهوا صورها. ثم جاءت ثورة إخناتون الدينية فكشط أتباعه اسم الإله آمون وشوّهت صوره المختلفة في كل مكان وصلت إليه أيديهم... فلا عجب أن أغلب مناظر المعبد سواء الدينية أو العائلية قد شُوّهت سواء بسبب النزاع العائلي أو بسبب الاختلافات الدينية.