»وضع كتاب عن دونالد ترامب ربما يكون أصعب من إطلاق النار علي هدف متحرك».. عبارة أطلقها جوشوا ميتشل أستاذ النظريات السياسية بجامعة جورج تاون في واشنطن، وأعادت لور ماندفيل مراسلة صحيفة لوفيجارو الفرنسية اليومية في الولاياتالمتحدة استخدامها، في كتاب بعنوان " حقيقةً من هو دونالد ترامب؟".. عبارة تتبادر إلي الذهن عقب قراءة كل كتاب يتحدث عن تلك الظاهرة التي يجسدها ملياردير العقارات النيويوركي الذي يحب أن يصف ما فعله لمسرح السياسة الأمريكي ب»الحركة» فيما يراه المراقبون" ثورا هائجا» ينطح في كل الاتجاهات. تبدو الكتابة عن الرجل صعبة من زاوية أخري، فهو حديث العهد بعالم السياسة وتاريخه مازال في طور الكتابة، ولا يكاد يمر يوم إلا وأتي فيه بجديد، وإذا كان الظهور الأول لترامب في أوساط السياسيين بتاريخ 2015، فإنه أصبح في العام التالي مباشرة المرشح الرسمي للحزب الجمهوري لخوض انتخابات الرئاسة.. ظهر ترامب في بداية تسليط الأضواء عليه متردداً في تسويق نفسه بين قالبين، الأول هو إضفاء صبغة رئاسية علي هيئته ومظهره وكلماته ومصطلحاته، وهو ما تطلب جهداً خارقاً منه شخصياً ومن المحيطين به والمساعدين له وفشل الجميع في المهمة، والقالب الثاني هو أن يترك الرجل نفسه لنفسه، وهو ما لخصه كوري ليفاندوفسكي، المدير السابق لحملته الانتخابية، بقوله »دعوا ترامب ليكون ترامب»، وكان الخيار الثاني سبباً في إنتاج خطاب سياسي عنيف بدأ بدهس كل قواعد الذوق، واحتقار قواعد الديموقراطية الأمريكية برمتها، وانتهي بالتلويح بإثارة حرب أهلية وعدم قبول نتيجة الانتخابات حال الهزيمة. هل يسير ترامب علي نهج أندرو جاكسون، الرئيس السابع في تاريخ الولاياتالمتحدة "1829 - 1837"ذلك الرجل لم يرتد الجامعة ولم يكن من عائلة غنية، والذي عُرف عنه الصرامة والصلابة واستخدام لغة ذات عبارات قوية وعزم علي تحقيق ما يعد به، بحكمة تُحسب لها؛ امتنعت مراسلة الصحيفة الفرنسية عن الإجابة الصريحة، مكتفية بلفت انتباه القارئ إلي الينابيع العميقة التي أنتجت شخصية ترامب.. في جملتها عوامل اقتصادية وثقافية تعود إلي حرمان طبقة اجتماعية في معظمها من البيض المهمشين محدودي التعليم والذين كان من المفترض أن يجدوا أنفسهم علي رأس أولويات الحزب الديموقراطي باعتباره أميل لسياسات اليسار المنحازة للفقراء، ولكنهم وجدوا أنفسهم ممثلين في ملياردير العقارات، وهو ما أكدته أيضاً كورنتين سيلين الباحثة بمعهد العلاقات الدولية بباريس في دراسة كاشفة عن تلك الطبقة العاملة منشورة بعنوان »ترامب والناخب الشعبوي الأبيض»، واتفقت كورنتين ولور ماندفيل علي أن انتقاد ترامب الدائم ل»الهجرة التي لا تريد الدولة السيطرة عليها»، ووضع ذلك في القلب من خطاباته هو ما ضاعف من عدد مناصريه الباحثين عن "الحماية" من اتفاقيات التجارة الحرة التي جعلت من استثمارات أمريكية بقيمة 5,1 تريليون دولار تهرب إلي المكسيك وكندا ويستفيد منها عمال البلدين وليس عمال الولاياتالمتحدة. وتقدم الصحافية المراسلة رأياً آخر لمفكرين أوروبيين مقيمين في الولاياتالمتحدة، مثل ماري سيسل نافاس مؤلفة كتاب "ترامب.. صدمة الموجة الشعبوية"، وأوليفيه بيتون مؤلف "الثورة الأمريكية الجديدة"، اللذين يريان في "الشعبوي ترامب" صدي لموجة من النعرات القومية اليمينية المتشددة في أوروبا، التي ترفض كل أشكال الهجرة والانصهار في بوتقة العولمة.. تلك الموجة نفسها هي التي دفعت الإنجليز للتصويت بنعم للخروج من الاتحاد الأوروبي، بعدما ضاق العامل والمواطن البريطاني عموماً بنظيره القادم من بولندا ورومانيا والتشيك، والذي يحصل علي نصف أجره وبالتالي يجبره علي القبول بأجر مماثل وإلا فإنه سيلزم بيته طريحاً للبطالة.. يري أوليفيه بيتون أن الزمن لم يعد زمن العولمة التي جسدها الغرب ونقلها لغيره، فالقيم التي كان يسهل الدفاع عنها بالأمس أصبحت موضعاً للطعن اليوم، وتحولت حملة ترامب الانتخابية لمادة تشكك في كل القيم الغربية، ليس ذلك فقط، بل إنها كشفت عن تقارب بين قوي اليمين المتطرف علي ضفتي الأطلسي و»فقراً فكرياً».. تلك النظرة التشاؤمية التي تمهد لحركة غير مسبوقة في الولاياتالمتحدةالأمريكية، يتوقعها بيتون "الثورة الأمريكية الجديدة".