»شكرًا لك أيها البحر لأنك استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكرًا للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي .. شكرًا لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين .. شكرًا لكم لأنكم ستحزنون علينا عندما ستسمعون الخبر.. أنا آسف لأني غرقت».. كلمات كانت جزءا من رسالة مجهولة انتشرت علي مواقع التواصل الاجتماعي منذ عدة أشهر، وقيل إنها لمهاجر سوري لقي حتفه غرقاً في البحر المتوسط، بينما كان مع آخرين في قارب متهالك لإحدي الدول الأوروبية. الرسالة قوبلت بكثير من التعاطف، بينما أنكرها آخرون يرون أنها رسالة مؤلفة وأن القصة بأكملها محض خيال، وبعيداً عن المزايدة والمتاجرة فإن الرسالة تكشف حقيقة مريرة أصبحت جزءًا لا يتجزأ من واقع الشرق الأوسط وأفريقيا، والمتمثلة بأن من يتخذ قرار الهجرة بهذه الطريقة الخطرة، قد تساوت عنده أسباب الرحيل وأسباب البقاء، وصار الموت والحياة شيئًا واحدًا لا فرق بينهما، فلم يعد هناك شيء يغريه للحياة أكثر، كما أن هناك من خُدع وغُرِّر به فدفع لتاجر موت آلافا من الدولارات لكي يموت ابنه بهذه الطريقة المُهينة، بعدما كان يأمل في أن يبلغ فلذة كبده الشواطئ الأوروبية علي اعتبار أن دول الاتحاد الأوروبي مُجبرة علي استقبال الأطفال (دون الثامنة عشرة) وإيوائهم في دور رعاية وتعليمهم حرفة إضافة للغة البلد التي وصل إليه.. لكن ينتهي الأمر غالباً بحلم ضائع وتابوت يحمل رفات هذا الحلم! غير أن ظاهرة الهجرة غير الشرعية ليست حديثة العهد، بل هي ظاهرة بدأت منذ ستينيات القرن الماضي، وتقدر منظمة العمل الدولية معدل حجم الهجرة غير الشرعية ب10- 15% من عدد المهاجرين في العالم، وتؤكد المفوضية الأوربية لشئون اللاجئين أن نحو 500 ألف مهاجر يدخلون سنوياً إلي دول الاتحاد الأوروبي بشكل غير شرعي ويتواجد فيها حالياً ما يزيد علي ثلاثة ملايين مهاجر غير شرعي، وتُعدُّ فرنساوإيطاليا وبريطانيا وأسبانيا الأكثر استقبالاً للمهاجرين غير الشرعيين، ورغم كل ما تفعله باريس فإن عددهم علي أرضها يتراوح ما بين 300 إلي 400 ألف شخص، علماً بأن المصادر الفرنسية غير الرسمية تقدِّر عددهم بمليون شخص، وترتبط بظاهرة الهجرة غير الشرعية في فرنسا ظاهرة »الزواج الشكلي» للأجانب مع فرنسيين أو فرنسيات بغرض الحصول علي أوراق إقامة أو علي الجنسية الفرنسية. تأكيداً لذلك، فإن هناك نحو 43 ألف زواج مختلط تمّ خارج فرنسا مقابل 11 ألف زواج تمّ داخل الأراضي الفرنسية. أرقام المنظمة الأوروبية لمراقبة الحدود Frontex التابعة للاتحاد الأوروبي أعلنت أن نسبة المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلي دول الاتحاد، زادت بنسبة 250% خلال شهري يناير وفبراير 2016، مقارنة بنفس الفترة من عامي 2014 و2015، كما أوضحت المنظمة أن هناك زيادة في أعداد المهاجرين القادمين إلي أوروبا من خلال مصر هذا العام بنسبة 10% بعدما أغلقت دول البلقان حدودها بالتعاون مع تركيا ونظراً للانفلات الأمني والحرب الأهلية في ليبيا، وانتشار عصابات تجارة الرقيق وتجار الأعضاء البشرية الذين يخطفون المهاجرين وأبناءهم. وطبقاً للأرقام الرسمية فإن بمصر 5 ملايين لاجئ، نصفهم سودانيون، ينتظرون الفرصة للهرب إلي القارة العجوز، وكان عدد القُصر الذين عبروا عام 2015 إلي إيطاليا وحدها من خلال مصر 1711 لاجئا من أصل 2610 أي ما نسبته 66%، وطبقاً لدراسات أجرتها المنظمة الدولية للهجرة علي الحالات التي عبرت إلي الجانب الآخر من المتوسط، فإن كل هؤلاء المهاجرين لا سيما من هم ما بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، من مناطق ريفية ويبحثون عن فرص عمل، وهناك أسر دفعت لأبنائها ما بين 3000 و5000 دولار لمهربين بعدما رأوا مظاهر الثراء علي أسر هاجر أبناؤها بنفس الطريقة، أما من يقع بين يدي عصابات الاتجار بالبشر فيكون مصيرهم الاستغلال الجنسي أو الإجبار علي القيام بأعمال شاقة مقابل مبالغ زهيدة أو استغلالهم في تجارة المخدرات والأعضاء البشرية.. التباين في المستوي الاقتصادي بين الدول الطاردة والدول المستقبلة هو السبب الرئيس في موجات النزوح من الأولي للثانية، وهو نتيجة لتذبذب وتيرة التنمية في البلدان الأفريقية وما يُعرف بثورات الربيع العربي في الدول العربية التي كانت تعتمد أساسا في اقتصاداتها علي مصادر هشة للدخل، كما تشكل الظاهرة خطورة علي المجتمعات الطاردة حيث تؤدي إلي إفراغ الدول الفقيرة من الطاقات وتسرب المهارات والعقول والأيدي العاملة. الهجرة والإرهاب جري الربط بين الهجرة غير الشرعية وبين قضايا الإرهاب، لذلك بدأت تأخذ منحي جديدا في كل الاجتماعات واللقاءات المشتركة مع حكومات الدول التي ينزح منها اللاجئون لا سيما مع قيام لاجئين بتنفيذ عمليات إرهابية في الدول التي استقبلتهم علي غرار اللاجئ الأفغاني الذي جرح وأصاب 8 أفراد في قطار بمدينة ميونيخ الألمانية خلال هجوم نفذه بفأس وسكين، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما مدي فعالية الحلول التي يقدمها الاتحاد الأوروبي، وهل تقدم هذه الحلول إحاطة تامة بالظاهرة؟ وهل ظاهرة الهجرة مشكلة بحد ذاتها أم أنها نتائج وآثار مترتبة علي مشكلة أعمق وأكبر؟ وهل يكمن الحل في دراسة الظاهرة ومعالجتها بتناول أسبابها أم دراسة النتائج ومحاولة القفز علي الأسباب؟ حقيقة الأمر أن استجابة الاتحاد الأوروبي الحالية للهجرة من أفريقيا والشرق الأوسط، في برنامج دوريات الحدود المسمي »عملية تريتون»، الذي حل العام الماضي محل برنامج إيطالي مماثل يسمي »مار نوستروم». ولم تكن المشكلة حينها أن البرنامج الإيطالي كان مكلفًا للغاية، حيث أنفق عليه نحو 9,5 مليون يورو في الشهر، وهو ثلاثة أضعاف تكلفة عملية »تريتون»، ولكن في أن ذلك البرنامج كان يتصرف كما لو أنه »خدمة سيارات أجرة» للاجئين علي حد وصف صحيفة لوموند الفرنسية، وما يثبت صحة هذا الانتقاد هو قيام المهربين الذين يعملون من ليبيا بحمل المهاجرين علي متن قوارب صغيرة، وليس فيها ما يكفي من الوقود - في كثير من الأحيان - ومن ثم استدعاء المساعدة. وأنقذ برنامج »مار نوستروم» ما يزيد علي 163 ألف لاجئ في عام 2014، وفقًا لمفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، لكن رغم ذلك، لم يكن »عامل الجذب» هذا، كما وصفته المملكة المتحدة العام الماضي سببًا لسحب كل الدعم من بعثات الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط، السبب وراء الهجرة غير الشرعية. وهناك بعض الدول، مثل ألمانيا، تري أن فتح برنامج قائم علي نظام الحصص، ويسمح لعدد محدد من اللاجئين بطلب اللجوء والاستقرار في الاتحاد الأوروبي، عامل مساعد في حل المشكلة، وسيختار العديد من اللاجئين التقديم للبرنامج، ومن ثم الانتظار في مخيماتهم عند منحهم بديلا عن رمي أنفسهم تحت رحمة المهربين والبحار الشاسعة. ولدي الولاياتالمتحدة برنامج مشابه لما يصل إلي 80 ألف مهاجر سنويًا. وقد اقترح زعماء الاتحاد الأوروبي طوعًا في أحد اجتماعاتهم إعادة توطين المهاجرين المحتاجين للحماية، ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة. غير أن كل تلك الحلول تبقي مجرد حبر علي ورق، ولا تقدم حلاً جذرياً للمشكلة، إذ يري المراقبون للمشهد في الشرق الأوسط أن الغرب لن ينعم بالأمان ما لم ينعم الشرق الأوسط بالاستقرار ويتوقف القابعون في الجانب الآخر من المتوسط وخلف المحيط الأطلسي عن التدخل في شئون المنطقة وإذكاء صراعاتها المذهبية خدمةً لمصالحهم، ولشركات تصنيع السلاح التي حققت أرباحاً مليارية جراء الحروب الدائرة في سوريا وليبيا والعراق علي مدار السنوات الست الماضية.