شهدت البلاد خلال الأسبوعين الماضيين جدلا شديدا واختلافات متباينة في الآراء والمعتقدات وصلت في بعض الأحيان إلي حد التشابك بالأيدي وتبادل الألفاظ غير اللائقة بل والنابية مما جعل البعض يشعر بالقلق الشديد علي مستقبل الثورة الوليدة التي أبهرت العالم كله.. وقد اتضح ذلك بكل جلاء خلال اجتماعات الحوار الوطني والوفاق القومي ثم تجلي خلال الإعداد والتجهيز لما سمي ب »جمعة الغضب الثانية« في ميدان التحرير ومختلف المحافظات وماشاهدناه بين انقاسامات حادة بين كافة الائتلافات والتيارات وما أكثرها. بعضها يؤيد التظاهر ويدعو المواطنين للمشاركة فيه بهدف الضغط علي المجلس العسكري والحكومة من أجل تحقيق مطالب الثورة وخاصة فيما يتعلق بسرعة محاكمة رموز النظام السابق والبعض الآخر وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون وأنصار التيار السلفي يرفضون المشاركة في هذه الوقفة الاحتجاجية بل ويطالبون المواطنين بعدم المشاركة فيها باعتبار أن الداعين لها والمشاركين فيها هم الليبراليون وأصحاب الفكر المدني والكفرة كما جاء في أحد المنشورات التي وزعت علي الجماهير بالإضافة إلي ماتمثله هذه التظاهرات من قلق وتوتر وإعاقة للعمل والإنتاج بل وتهديد للحرية والديمقراطية. ولما كانت الديمقرطية أحد أهم مطالب الثورة إلي جانب الحرية والعدالة الاجتماعية فإن الاختلاف في الرأي هو جزء أصيل وهام من مفاهيم الحرية والديمقراطية ينبغي احترامه والتأكيد عليه وذلك علي أن يتم طبقا لأصول الحوار الراقي المتمدين الذي يراعي حقوق كل الناس وألا تكون الغلبة فيه لأصحاب الصوت العالي والمتشددين. ولما كان المجلس الأعلي للقوات المسلحة هو المنوط به إدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية حتي يتم إعداد دستور جديد وانتخاب مجلس شعب ورئيس جمهورية جديد وانطلاقا من إحساسه بجسامة المسئولية وخطورة الموقف علي مستقبل الثورة وأمن واستقرار البلاد فقد أعلن رفضه وعدم تحمسه لهذه التظاهرة التي لن تفيد بل ربما تؤدي إلي مزيد من القلاقل وتعكير صفو الأمن الذي نحن في أشد الحاجة إليه في الوقت الراهن لتحقيق الاستقرار من أجل دفع عجلة الإنتاج في جميع المجالات ولتعويض ما تحقق من خسائر جسيمة خلال الفترة الأخيرة كما أعلن رفضه انطلاقا وتحسبا لكل هذه المخاطر أنه لن يكون مسئولا عن تأمين هذه المظاهرة ويتعين علي الداعين والمنظمين لها أن يتحملوا مسئولية الحفاظ عليها وعلي المشاركين فيها من أية عناصر مغرضة يمكن أن تندس فيها بهدف إحداث حالة من الفوضي التي لايحمد عقباها وشارك المجلس الأعلي في هذا الاتجاه جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين وبعض القيادات الأخري. وفي الوقت الذي تجمع فيه الآلاف من المؤيدين للتظاهر في ميدان التحرير كانت هناك مظاهرات أخري في ميدان الحسين وأمام المنصة التذكارية مؤيدة للمجلس الأعلي في قراراته ومؤكدة ثقتها فيه باعتباره السند الأساسي في حماية الثورة منذ اللحظات الأولي لقيامها وصمام الأمان لأمن واستقرار هذا الوطن. وإذا كان الداعون »لجمعة الغضب« غاضبين لأنه من وجهة نظرهم لم يتحقق شيء من أهداف الثورة حتي الآن ويطالبون بضرورة سرعة محاكمة مبارك ورموز نظامه وإعدامهم إذا ما تطلب الأمر ذلك ردا علي ماتعرض له شباب الثورة من استعمال القوة المفرطة. والتي أدت إلي سقوط المئات من الشهداء والجرحي.. ولكن أليس للقضاء قواعد وللمحاكمات أصول خاصة أن القضاء المصري الشامخ يتمتع بسمعة عالمية لايجب أن نخسرها أو تزعزع الثقة فيها حتي نتمكن إيضا من استرداد أموالنا المهربة في مختلف دول العالم.. ذلك أن قواعد استعادة هذه الأموال تستوجب مثول هؤلاء المتهمين أمام القضاء الطبيعي وليس أمام محاكم عسكرية أو استثنائية كما أنه لابد أن تتم هذه المحاكمات دون أية ضغوط أو تهديدات يمكن أن يتعرض لها القضاة وتؤثر بشكل أو بآخر في منطوق الحكم كما هو حادث الآن في بعض المحاكم وتنقله أجهزة الإعلام المحلية والعالمية. وقد طالب البعض أيضا بحل المجالس المحلية باعتبارها بؤر فساد أفرزها النظام السابق وكذلك إقالة المحافظين ورؤساء الجامعات وانتخاب آخرين لتحقيق العدالة والتأكيد علي رأي المواطن في اختياراتهم طبقا للقواعد والنظم الديمقراطية ومعهم الحق كل الحق في ذلك وأن كان هذا يحتاج بالطبع إلي بعض الوقت حتي يتم الانتخابات اللازمة علي أسس سليمة تؤدي إلي الغرض المطلوب منها وتحقق العدالة والصدق والجدية في الاختيار.. وأما أن يطالب البعض بانتخاب قادة القوات المسلحة فهذا بكل تأكيد نوع من الشطط والمزايدة غير المسئولة يغيب عنها الوعي والنضج السياسي الذي نحن في أشد الاحتياج إليه في هذه المرحلة الحرجة للغاية. والحقيقة أننا ونحن في ظل هذا الحراك السياسي المشحون والمليء بالحماس والانفعال والذي نهدف من ورائه إلي إقامة »الدولة المدنية الحديثة« دولة العلم والقانون والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان دولة تراعي كل القيم الإنسانية والحضارية التي كنا من أوائل الأمم والشعوب التي ساهمت في إرساء قواعدها علي مر التاريخ وفي مقدمتها قيم العدالة والتسامح وقبول الآخر والإيمان بحرية الرأي والعقيدة لكافة المواطنين دون تفرقة.. ولابد أن نثبت ونؤكد للعالم كله أننا أمة متحضرة وشعب ناضج قادر علي مزاولة الديمقراطية والحرية وحماية حقوق الإنسان.. قلوبنا ناصعة البياض مثل ثورتنا خالية من الحقد والكراهية والرغبة الجامحة في الانتقام والإقصاء هذه المشاعر البغيضة التي أكتوينا بنارها علي مدي ستين عاما لايجب أن تكون أسلوبنا في التعامل.. عقولنا مفتوحة لاستيعاب متطلبات العصر واللحاق بركب التقدم من أجل سعادة ورفاهية شعبنا. إننا نقدر ثورية وانفعال الشباب الذين فجروا ثورة الخامس والعشرين التي حمتها قواتنا المسلحة الباسلة واحتضهنا شعبنا العظيم وهو شيء طبيعي تماما مثل تواصل الأجيال.. غير أن إصلاح البيت من الداخل وتطويره وتحديثه طبقا لأحدث النظم لا يعني هدمه علي كل من فيه.. ولاشك أن الثورية شيء عظيم ومطلوب لتنشيط حركة الشعوب وتطويرها ولكنه مطلوب بالتأكيد تغليفها بسياج من العقلانية والحكمة والتأني حتي تحقق أهدافها المرجوة ولا تضل طريقها مع الأخذ في الاعتبار أن كثيرا من الثورات لم تحقق أهدافها إلا بعد سنوات من قيامها.. وهنا أود أن أشير مرة أخري إلي قول عالمنا الجليل الشيخ الشعراوي: الثائر دائما يثور ولكن الثائر الحق هو الذي يثور لكي يهدم الفساد ثم يهدأ ليبني الأمجاد.. قالها قبل عشرين عاما وكأنه يقدم النصيحة لثوارنا الأبطال هذه الأيام. حذاري من أولئك الذين يريدون فرض آرائهم وإرادتهم علي الآخرين بالقوة بل ويحاولون الإساءة إلي القوات المسلحة ويهاجمون رموزها لأن ذلك ليس في صالح القوات المسلحة ولا في صالح الوطن كما أنه ليس أيضا في صالح الثورة ذاتها ولا أهدافها ومبادئها النبيلة التي قامت عليها وحازت رضي وإعجاب كافة أبناء الشعب المصري والعالم أجمع. كما أن هذا الشعب الذي عاني كثيرا من تحكم وجبروت وطغيان النظام السابق لن يسمح مرة أخري بعودة مثل هذه المفاهيم تحت أي مسمي أو جماعة أو تيار.