معاناة مزمنة يعيشها الأهالي في رحلة بحثهم عن ألبان الأطفال المدعمة، في ظل اختفائها من مراكز رعاية الأمومة والطفولة ونقصها في الصيدليات. وهي الأزمة التي تفاقمت مؤخراً حتي أصبح الحصول علي عبوة لبن يحتاج إلي "واسطة"، بما يهدد حياة آلاف الأطفال الذين يعتمدون في غذائهم علي الألبان الصناعية. الأمر الذي أرجعه خبراء إلي عشوائية إدارة وزارة الصحة لملف الألبان المدعمة، محذرين من اتجاه الوزارة لخصخصة عملية توزيع الألبان، وهو ما يتضح من محاولات سحب هذا الملف من الشركة المصرية لتجارة الأدوية لصالح بعض المستثمرين وشركات القطاع الخاص. مع عجز الحكومة عن توفير كميات كافية من الألبان المُدعمة، يقع الأهالي فريسةً لشركات القطاع الخاص التي تتحكم في أسعار الألبان الأخري، ورغم إعلان وزارة الصحة منذ فترة عن بدء تنفيذ "المشروع القومي لصحة الطفل" الذي يتضمن في أحد محاوره الأساسية إعادة هيكلة منظومة توزيع ألبان الأطفال المدعمة، من خلال صرفها عن طريق الكروت الذكية لضمان وصول الدعم إلي مستحقيه، إلا أن ذلك لم يتحقق بعد علي أرض الواقع. تبدو المفارقة في عدم اعتراف وزارة الصحة بوجود أزمة في الألبان، حيث تؤكد في بيانٍ صادر عنها وفرة الألبان الصناعية المُدعمة في وحدات الرعاية الأساسية ومراكز الطفولة والأمومة والصيدليات بشكلٍ تام، مؤكدة أن المخزون الاستراتيجي من الألبان المدعمة يكفي حتي ستة أشهر. معاناة الأهالي تتجلي في مشهد الطوابير التي تصطف أمام صيدلية "الإسعاف" بوسط البلد، والتي تعد أحد أكبر منافذ الشركة المصرية لتجارة الأدوية. وجوه واجمة تنتظر في صبر أملا في الحصول علي لبن يسد رمق أبنائهم. رحلة شاقة يقطعها الأهالي القادمون من جميع المحافظات إلي هنا، بعدما فشلوا في إيجاد ألبان مدعمة بالصيدليات الموجودة في محافظاتهم حسبما يؤكد الأهالي. المشهد يفسره الدكتور علي عبدالله مدير المركز المصري للدراسات الدوائية، موضحاً أن أزمة نقص ألبان الأطفال المُدعمة تتفاقم يومًا بعد يوم، لما تُعانيه وزارة الصحة من خللٍ كبير في إدارتها لمنظومة الألبان الصناعية المُدعمة. هذه الأزمة للأسف بدأت تأخذُ شكلا أكثر حِدّة لعدم وجود رؤية دقيقة لدي الوزارة في تحديدها لحجم الدعم وكمية الألبان المطلوبة، والتي يُفترض أن تعتمد علي إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقدير حجم الزيادة السُكانية. حيث إن ارتفاع عدد المواليد إلي نحو 2.5 مليون طفل سنويًا لا تواكبه زيادة في كميات الألبان المدعمة. والكارثة أن تفاقم الأزمة تسبب في مضاعفة العجز في هذه الألبان حتي وصل إلي نحو 50% لأن احتياجنا الفعلي يزيد علي 60 مليون عبوة سنويًا، بينما لايزيد عدد عبوات الألبان المدعمة في الواقع علي 30 مليون عبوة، تدعمها وزارة الصحة بميزانية تصل إلي 350 مليون جنيه سنويًا. ويوضح عبدالله أن هناك عدة فِئات للدعم المُخصص لألبان الأطفال والتي تبدأ بالألبان المدعمة بشكلٍ كامل، وهي التي يفترض أن تُوفر في وحدات الرعاية الأساسية ومراكز رعاية الأمومة والطفولة بسعر ثلاثة جنيهات للعبوة. تليها الألبان نصف المدعمة التي يُحدد سعرها بثمانية عشر جنيهاً ويقع نطاق توزيعها في الصيدليات. إلا أن جميع الألبان التي يتم دعمها هي الخاصة بالفئة العُمرية للطفل، بينما لاتدعم الحكومة تمامًا أنواع الألبان التي يحتاجها الأطفال المُبتسرون داخل الحَضّانات، كذلك الخاصة ببعض الحالات المرضية مثل حالات الارتجاع وأمراض الجهاز الهضمي والحساسية لدي الأطفال، التي تتطلب أنواعًا خاصة من الألبان لا تتحملها الأسر محدودة الدخل، حيث يصل سعر العبوة الواحدة منها إلي 150 جنيهاً. غير أن الخلل يمتد أيضًا لآلية توزيع الألبان المدعمة، فوزارة الصحة لم تضع قوانين وضوابط صارمة لعملية صرف الألبان في الصيدليات بحيث نضمن وصول اللبن المدعم إلي مستحقيه، ما جعل صرفه يتم بناء علي "الواسطة" والعلاقات الشخصية. فلابد من إعادة هيكلة منظومة التوزيع بشكلٍ كامل، حيث تؤثر أيضًا مركزية التوزيع للألبان المدعمة علي وفرتها بمراكز رعاية الأمومة والطفولة بعدة مُحافظات، وهو ما يُعاني منه بصورةٍ خاصة أهالي المحافظات النائية والصعيد. بينما يري عادل عبد المقصود رئيس شعبة أصحاب الصيدليات باتحاد الغُرف التجارية، أن الصيدلي يدفع ثمن عشوائية إدارة وزارة الصحة لملف ألبان الأطفال، ويقف دائمًا في وجه المدفع متحملا غضب الأهالي من نقص الألبان المدعمة بالصيدليات، فلا أحد يتخيل أن الكمية المحددة لكل صيدلية لا تزيد علي 12 عبوة شهريًا، وهي التي يتم صرفها وفقًا لنظام "الكوتة" الذي تطبقه الشركة المصرية لتجارة الأدوية، وفق تعليمات الإدارة المركزية للشؤون الصيدلية التابعة لوزارة الصحة بناء علي حجم المخزون السِلَعي المُتاح. وبالتالي تقل هذه الكمية في أغلب الأحيان لتصل إلي 8 عبوات شهريًا وهي بالكاد تكفي طفلا واحِدًا. فالطفل حديث الولادة وحتي يبلغ ستة أشهر يحتاج إلي عبوتين أسبوعيًا، وهنا تتضح فداحة العجز والفجوة بين الاحتياج الفعلي من الألبان المدعمة وحجم المتاح في السوق. هذا الوضع يتم استغلاله كما يُشير عبد المقصود مِن قبل الشركات المستورِدة للأنواع الأخري من ألبان الأطفال غير المُدعمة، والتي تستغل حاجة المواطنين لتتلاعب بأسعار الألبان في ظل عدم تسعيرها من قِبَل وزارة الصحة، حيث يتراوح سعر العبوة الواحدة ما بين 45 إلي 75 جنيهاً. مُحذّرًا من أن الكارثة الحقيقية تكمن في وجود رغبة لدي وزارة الصحة لإقصاء الشركة المصرية لتجارة الأدوية من استيراد وتوزيع الألبان المدعمة لصالح بعض شركات القطاع الخاص، رغم أنها الشركة الحكومية الوحيدة التي تملك هذا الحق. هذا الاتجاه اتضح من المؤامرة التي دبرت للشركة وحملة التشويه التي طالتها، بضغط من بعض المسؤولين بوزارة الصحة والذين أوقفوا إجراءات المُناقصة الخاصة بالألبان المُدعمة، بعدما حصلت عليها الشركة المصرية ليحاولوا إرساءها علي شركات أُخري. يُضيف: "تخبط قرارات وزارة الصحة وتأخرها في إجراءات المُناقصة سيؤثر علي المخزون الاستراتيجي للشركة من الألبان المُدعمة، وسيؤدي إلي تفاقم أزمة نقصها بصورة غير مسبوقة خلال الفترة المُقبلة لما تحتاجه عملية الاستيراد من وقت نظرًا لتعقد إجراءاتها. مُشيرًا إلي أن ما حدث يأتي في إطار الخطة الممنهجة التي تُنفذ لهدم شركات قطاع الأعمال الوطنية لصالح بعض المستثمرين، بدلا من العمل علي تطويرها وإعادة هيكلتها وإصلاح أوجه القصور بإداراتها. وهذه كارثة لأن ملف ألبان الأطفال المدعمة أمن قومي، لا يُمكن وضعه في يد شركات خاصة لا تُحكَم الرقابة عليها. غير أن هذه المحاولات لن تتوقف ما لم يوضع تشريع يحمي جميع السِلَع الاستراتيجية المُدعمة من العبث بها. بينما يري أحمد عبيد الأمين العام المُساعد لنقابة الصيادلة أن هذه الأزمة لا يُمكن حلها، طالما استمر اعتمادنا بشكل تام علي الألبان المستوردة دون توفير بديل محلي منها. فمنذ عام 2011 ونحن نُخاطب وزارة الصحة بضرورة إقامة مصنع لإنتاج ألبان الأطفال محليًا، ورغم أن هناك اتجاهًا لدي الوزارة حاليًا لإنشاء المصنع إلا أننا نحتاج قرارًا حاسمًا وإجراءات أكثر جدية، فالملايين التي تُنفقها الدولة لدعم الألبان المستوردة تكفل إقامة مصنع يُغطي احتياجاتنا المحلّية بأقل تكلفة. والغريب أنه كان لدينا مصنعًا واحدًا لإنتاج ألبان الأطفال لكنّه أُغلق منذ عدّة سنوات ولم تبذل الحكومة أي جهد لإعادة تشغيله. وغير أن عملية الاستيراد تستنزف العملة الصّعبة، فمن غير المعقول أن تبقي سلعة استراتيجية مثل ألبان الأطفال مُهددة وخاضعة لقيود الاستيراد.