ازمه جديدة تلوح في أفق الكنيسة الأرثوذكسية، بعدما دشّنت إحدي الجماعات الحقوقية القبطية حملة "تمرّد" للمطالبة بعزل البابا تواضروس الثاني بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المُرقسية، علي خلفية الصراعات الدائرة بين الكنيسة والأقباط المُتضررين من قضايا الأحوال الشخصية، والمُطالبين بالحصول علي الطلاق وتصاريح الزواج الثاني، فيما يري ناشطون أقباط أن الحملة مدعومة بالأساس من جماعة "الإخوان" الإرهابية. الدعوة التي التف حولها عدد من الائتلافات المعنية بالملف الحقوقي القبطي، فجّرت ردود فعلٍ صاخبة داخل الأوساط القبطية الرافضة لها، ودفعت البعض إلي التشكيك في الأهداف الكامنة وراء هذه الحملة، فيما اعتبر البعض الآخر أن القائمين عليها مدفوعون من قِبل جهاتٍ مناوئةٍ لمؤسسات الدولة، لخلخلة الثوابت المتبعة داخل الكنيسة. فيما قوبلت الحملة بانتقاداتٍ شديدة مِن قِبل الكنيسة، التي اعتبرت أن الحديث عن عزل البابا فِكرةٌ عبثية تهدف إلي إحداث الشِقاق بين الأقباط وراعيهم. بينما يكشف إسحق فرانسيس مؤسس رابطة "الصرخة" للأحوال الشخصية للأقباط، والداعي لحملة "تمرد" المُطالِبة بعزل البابا، أن قرار تدشينه لهذه الحملة التي تقوم علي جمع توقيعات من الشعب القبطي لسحب الثقة من البابا، جاء نتيجة تفاقم المعاناة التي يعيشها أكثر من 300 ألف قبطي حُرموا من أبسط حقوقهم الشخصية فيما يتعلق بقضايا الطلاق والزواج الثاني، في ظل عجز البابا عن وضع حلول حقيقية تضمن حقوق رعاياه، رغم الوعود التي تلقيناها منه عندما اعتلي منصبه خلفاً للبابا شنودة. متابعاً: ما زاد من إصراري علي المُضي قُدماً في هذه الحملة الممارسات الاستبدادية التي تُمارسها الكنيسة بحق رعاياها، والتعنت الذي تتعامل به تجاه قضايانا، والتجاهل التام الذي نلقاه من البابا الذي يُفترض أن يستمع إلي أبنائه بدلاً من أن يُغلق بابه في وجوههم. فقبل أن نُقدم علي هذا التصعيد طرقنا جميع الأبواب للحصول علي حقوقنا، وكانت مطالبنا تنحصر في إصدار قانون للأحوال الشخصية للأقباط يكفل حرية الزواج المدني، ويأخذ بما ورد في اللائحة 38 التي تم إلغاؤها والتي كانت تتيح الزواج الثاني للمسيحيين المُنفصلين وتُقر عشرة أسباب للطلاق. لكن تم تهميش مطالبنا وتجاهلها من قِبل الكنيسة أثناء تعديل مسودّة القانون الذي أعدته وزارة العدالة الانتقالية. ووصلت الممارسات الاستبدادية إلي الاعتداء علي بعض المتضررين من قانون الأحوال الشخصية مِمن تظاهروا مؤخراً أثناء إلقاء البابا لعظته الأسبوعية، قبل أن يتم احتجازهم داخل الكاتدرائية لتقوم الكنيسة بتسليمهم إلي الشرطة. هذه الفجوة التي تتسع بين الكنيسة ورعاياها أكدت لي أن البابا غير قادر علي إدارة شؤوننا. ويُشير فرانسيس إلي أن الحملة التي أطلقها للمطالبة بعزل البابا لاقت ترحيباً كبيراً بين الأقباط ولم يقتصر مؤيدوها علي متضرري الأحوال الشخصية، متابعاً: لم أتخيل أن يصل الإقبال إلي هذا الحد، فعدد الاستمارات التي جمعناها تجاوز الآلاف، رغم أن تمويل الحملة مازال تمويلاً ذاتياً يُسهم فيه بعض الأقباط والمعنيين بالملف الحقوقي القبطي، ومازلنا نحتاج إلي الكثير لنؤسس مقار لنا بجميع المحافظات. إلا أن الدعوة تنتشر تدريجياً رغم ما نتعرض له أيضاً من إساءات وضغوط شديدة وما نواجهه من اتهامات من جانب المجمع المقدس، الذي حاول أن يُثنينا عن دعوتنا بلهجة عنيفة بدلاً من الأخذ بمبدأ الحوار. كما بدأت الكنيسة بالتشكيك في دوافع الحملة وحجم الإقبال عليها. ويضيف: الأخطر من ذلك أن الأساقفة يروّجون لفكرة استحالة عزل البابا من منصبه وأن ذلك يُخالف القواعد الكنسية لأن هذا المنصب هو اختيار سماوي، رغم أن المادة 104من قانون "الديسقولية" في الكنيسة تتيح محاكمة البطريرك إذا أخطأ أو ارتكب مخالفة بأن يتم طرحه خارج البيعة، وتُعطي حق انتخاب البابا من عموم الشعب القبطي، بينما تقصر الكنيسة هذا الحق علي الكهنة والأساقفة. هذا القانون يعد من مصادر التشريع التي يُفترض أن تتبع داخل الكنيسة، لكن للأسف هناك تعمّد لإخفاء هذه المادة وعدم تفعيلها في الضوابط الكنسية. ولا تقتصر أسباب دعوتنا لعزل البابا علي تخليه عن حقوق الأقباط، ولكن لنا تحفظات أيضاً علي إدارة موارد الكنيسة وزيادة نفوذ الأساقفة داخلها، بينما لا يتعامل البابا بحزم مع هذا الأمر. وكنت قد تقدمت إلي رئيس الجمهورية في وقتٍ سابق بمشروع قانون لاستحداث وزارة خاصة بالأقباط علي غرار وزارة الأوقاف، بحيث تخضع موارد الكنيسة للرقابة الحكومية والمتابعة من قبل الجهاز المركزي للمحاسبات، بما أننا نخضع للقانون الذي يُفترض أن يطبق علي الجميع. بينما يستنكر القس بولس حنا المتحدث باسم الكنيسة الأرثوذكسية ما أسماه "الدعوة المُشينة" التي تنم عن عدم احترام مُطلقيها لمنصب البابا كما يُشير. متابعاً: الحديث عن عزل البابا حديثٌ عبثي يخرج عن اللياقة، فمنصب البابا يُعد منصباً روحياً له مكانة كبيرة في العقيدة المسيحية الأرثوذكسية، ووفقاً لعقيدتنا البابا غير قابل للعزل ومن يدعون إلي ذلك يرتكبون خطيئة كبري بمخالفتهم لتعاليم السيد المسيح الذي يقول في الكتاب المُقدّس "رئيس شعبك لا تقل فيه أي عيب". كما أن اختيار البطريرك في الكنيسة القبطية يتم وفقاً لضوابط وآليات وقواعد لاهوتية، لا تخضع لرقابة القضاء أو أي جهةِ إدارية في الدولة، حيث يجري ذلك عن طريق الانتخاب من خلال المجمع المقدّس الذي يضم هيئات منتخبة من الأساقفة والإكليروس والأراخنة الذين يبلغ عددهم(25) يمثلون جموع الشعب القبطي. غير أن الكنيسة تؤمن أن اختيار البطريرك اختيارٌ سماوي يُباركه الرب، بعد الصلوات والطقوس التي نقوم بها قبل أن يتوّج بالقرعة الهيكلية التي تحسم هذا الاختيار، وهذا ما يُفسر ارتباط الشعب القبطي روحانياً براعيه. ويؤكد أنه لم يحدث تاريخياً أن تم عزل البابا من منصبه، رغم الخلافات التي حدثت بين بعض الباباوات والحُكّام، وحتي عندما أصدر الرئيس الراحل أنور السادات قرارا بتجريد البابا شنودة وإلغاء القرار الجمهوري الصادر بتعيينه، اعتبر القرار كأن لم يكن، فرغم إبعاد البابا آنذاك في دير وادي النطرون عاد إلي ممارسة مهامه ولم يُعزل، ما يؤكد أن منصب البابا منصب روحي يرتبط بالوجدان القبطي وليس منصباً إداريا أو سياسياً. وكان يجدر بمن يروّج لهذه الدعوة أن يتخذ مسالك أخري ليعبر عن آرائه ويعرض مطالبه، فالكنيسة حريصة علي إيجاد حل لملف الأحوال الشخصية، وهناك آلية تتبع للنظر في التظلمات المقدمة مِن قبل المتضررين. هذه الآلية تم تطويرها وبدأنا بالفعل في تطبيق لائحة الأحوال الشخصية الجديدة للأقباط، التي تتضمن تقسيم المجلس الإكليريكي العام إلي ستة مجالس فرعية- بعد أن كان مجلساً واحداً-، لتيسير نظر هذه القضايا وسرعة البت فيها. ويكشف نجيب جبرائيل الناشط القبطي رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان أن من يدّعون القيام بحملة تمرد ضد البابا، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، لا يُمثلون إلا أنفسهم ولا يُعبّرون عن عموم الأقباط الذين يرفضون مثل هذه الدعوات الشاذة التي ليس لها أي صدي علي أرض الواقع، بينما يُعلنون عن أرقام وهمية لمؤيدي فكرتهم. مضيفاً: هذه الحملة مشبوهة تخضع لمصالح كبري غير مُعلنة، ومن خلال بحثنا وراء المجموعة التي تقودها تبيّن أن هؤلاء مدفوعون ومأجورون من قِبل جِهات مناوئة لمؤسسات الدولة ترتبط بجماعة الإخوان الإرهابية، تقوم بدعمهم مادياً من إجل إحداث الشقاق والوقيعة بين الأقباط وراعيهم البابا تواضروس من جِهة، وبين الأقباط ومؤسسات الدولة من جهةٍ أخري، لتصفية حسابات علي خلفية الموقف الوطني الذي اتخذه البابا والكنيسة القبطية في دعم ثورة 30 يونيو. وللأسف حاولت بعض الجماعات الحقوقية القبطية استغلال الموقف، للضغط علي البابا والكنيسة من أجل زعزعة وتغيير الثوابت الدينية المتعلقة بمسائل الطلاق والزواج الثاني للأقباط. أما الدكتور كمال زاخر المنسق العام للتيار العلماني القبطي فيري أن مثل هذه الدعوات تنطوي علي عدم إدراك لطبيعة المؤسسة الدينية، لأن التعاطي مع المؤسسات الدينية وبخاصة المسيحية لا يتم بأدوات المؤسسات السياسية، لاختلاف طبيعة هذه المؤسسات عن بعضها البعض. فالحديث عن الكنيسة المصرية يعني الحديث عن أعرق مؤسسة أقيمت في مصر إذ يتجاوز عمرها الألفي عام. هذه المؤسسة لها قواعد تُنظم حِراكها، تخضع إلي موروث ديني ممتد بهذا الزمن، فالتغيير بها يتم وفقاُ لقواعد مستقرة، وبالتالي فإن استخدام تعبير "التمرد" للتعاطي مع هذه القضية يكشف أن من يستخدمه لا يعرف شيئاً عن قوانين الكنيسة. متابعاً: إلا أنني أعتقد أن الدوافع الكامنة وراء هذه الحملة تتجاوز بشكلٍ كبير فكرة المطالبة بحقوق الأقباط فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية. أُرجح أن هناك جبهة داخلية تنتمي للكنيسة توجّه مثل هذه الدعوات لممارسة ضغط معنوي علي البابا، لإعاقة عملية الإصلاح التي يقودها داخل الكنيسة.