أستطيع أن أقول، ويستطيع الذين يعرفون أم كلثوم بين القراء أن يوافقوني علي ماأقول، وهو أن مقابلة مطربة المشرقين دونها صعوبة مقابلة أي صاحب دولة من رؤساء الوزارات. أردت أن أنال منها موعدا بالمقابلة فطلبتها بالتليفون.... ورد عليّ الفراش وسمع مني اسمي ولقبي ثم أسلمني إلي خادمة أعدت عليها اسمي ولقبي مصحوبين بالسبب الذي من أجله أريد أن أتحدث إلي أم كلثوم.. وأسلمتني الخادمة إلي «كبيرة الأمناء» التي أرادت أن تتأكد هل هناك سابق موعد بيني وبين الست؟.. وأجبت بالنفي.. وهنا تناول السماعة كبير الياوران وبعد أن تلوت عليه اسمي ولقبي والسبب الذي من أجله.... إلخ بعدها أفهمني أن أم كلثوم نائمة! نائمة الساعة احداشر؟ وبينما كبير الياوران يفكر في كذبة أكثر حبكة وإتقانا من كذبة النوم، أقبلت أم كلثوم نفسها وسمعت صوتها إياه من فوق أسلاك التليفون.. وبدأت أنا بحكم العادة والتمرين أسرد علي سمعها اسمي ولقبي والسبب الذي من أجله..... وقاطعتني أم كلثوم وهي تقول بصوت ملائكي: طيب اتلهي بأه.. ما أنا عارفاك! وحددت لي ساعة للمقابلة. وحلقت ذقني، وفي الساعة المحددة كنت واقفا أمام باب أم كلثوم أمسح حذائي في أطراف البنطلون وأضغط علي جرس الباب. وخرج لي خادم نوبي.. وسألته عن الآنسة فلم يجب... وتركني وعاد بعد لحظة ومعه خادمة ألقت عليِّ نظرة قاستني بها من أعلي إلي أسفل! وبعد أن عرفت بوجه التقريب طولي وعرضي وكم أقة أزن، تركتني هي والخادم.. ثم عادا ومعهما آنسة ثالثة عرفت فيما بعد أنها سكرتيرة الفن. وقالت الآنسة: تفضل! وتفضلت أنا بالدخول. وفي اليوم التالي! التالي لانتظاري في الصالون دخلت الآنسة أم كلثوم وجلست بجانبي علي نفس الكنبة من غير مبالغة. وهنأتها بسلامة الوصول وبدأنا نتحدث..
وقالت أم كلثوم إنها سافرت إلي أوروبا متنكرة باسم الآنسة أ.ك إبراهيم، ولم تصحب معها في رحلتها سوي ابنة شقيقتها الآنسة رؤية لأنها تجيد التكلم باللغة الفرنسية.. كما أنها تجيد الحديث طراطيش بعدة لغات! وسألتها لماذا لم تسافر إلي أوروبا قبل الآن؟ فأجابت لأنها لم تكن تعرف لغات أجنبية! وهل أنت تعرفين لغات أجنبية الآن؟ وهنا قالت أم كلثوم إن هذا سؤال بارد! وشكرتها أنا علي هذا التصريح الخطير!!
وقالت «سومة» إنها استفادت من رحلتها كثيرا، وإن وزنها لم يزد ولم ينقص بل ظل كما هو، وأنها انتهزت فرصة هذه الرحلة فكانت تأوي إلي فراشها عند تمام الساعة التاسعة مساء مثل الناس الطيبين وهو أمر لم يتيسر لها منذ سنوات عديدة.. ثم أخرجت من جيبها مذكراتها عن الرحلة وقد دونتها هي بنفسها وراحت تسرد عليَّ أسماء البلاد التي زارتها وعدد سكانها وخطوط الطول والعرض وأهم حاصلات البلاد ومناظرها التاريخية ومواعيد القطارات والترام في كل بلدة منها، وكم بوصة من المطر تنزل في العام.. في شوارع البلدة، وفوق السطوح.. ومعلومات عديدة لذيذة لم أكن أعرفها من قبل. ولما سألتها عن رأيها في المدن الكبيرة التي زارتها قالت إن أحسن بلد في اعتقادها هي لندن، وأوحش بلد هي باريس! «والكلمة الآن لصديقنا الأستاذ الصاوي المحرر بجريدة الأهرام»!! وأخذت أم كلثوم تشرح لي رأيها في فرنسا والفرنسيين، وهي معلومات أمسك عن نشرها حرصا علي مابين مصر وفرنسا من حسن العلاقات! وهنا أخرجت «تلامتي» المشهورة وسألت المطربة: وأي الأمم أعجبك رجالها أكثر من سواها؟ وتصاعد الدم في وجه أم كلثوم.. ثم تساقط من وجناتها عرق الخجل والخفر والحياء، وأخرجت أنا منديلي ومسحت به قطرات عرق الخجل من علي الكنبة والبساط.. وبعد أن أعدت عليها السؤال عشر مرات، وبعد أن قامت هي إلي التليفون لكي تشكوني إلي رئيس تحرير هذه المجلة وتحتج عنده ضد هذا السؤال، وبعد أن وجدت لحسن الحظ رئيس التحرير نائما.. بعد هذا وذاك، أسلمت سومة أمرها إلي الله وقالت: أحسن رجال عجبوني صحيح هم الإنجليز لأنهم رجال بمعني الكلمة. قلت: والرجال في فرنسا؟ قالت: لم يعجبوني! أو علي الأقل الشبان الذين رأيتهم كانوا أقل رجولة مما يجب، ومنهم من يكثر من «الحفلطة» والتواليت مثل أية غانية حسناء! بل وسمعت أن بينهم من يحافظ علي نحافة خصره ولايجد وسيلة سوي لبس «الكورسيه»! أما الإنجليز، فلا شيء عندهم من هذا كله.. قلت لها وأنا أندم في سري علي أني حلقت دقني وتعطرت! قلت: إذن فأنت تفضلين الرجل الخشن المتقشف؟.. ورمتني أم كلثوم بزغرة دق لها قلبي الضعيف فسحبت السؤال كأي صحفي شريف. نشر في العدد 11 بتاريخ 32 سبتمبر 4391