من الصناعات، نالت صناعة الزيوت خلال العقود الماضية نصيباً كبيراً من التدهور، أدي إلي وضع مصر في قائمة الدول الأكثر استيراداً للزيت، إلي الحد الذي جعل احتياجاتنا مؤشر المُصدرين لتحديد السعر، إذ نستهلك سنوياً نحو مليون ونصف مليون طن، مقابل إنتاج محلي يقارب 150 ألف طن فقط. ما جعل عددا من مصانع الزيت تعاني من خسائر فادحة، لعدم توافر المواد الخام نتيجة تراجع إنتاج المحاصيل الزراعية من القطن وعباد الشمس وفول الصويا، وهو ما دفع عددا من المُصنعين إلي استيرادها من الخارج لتشغيل مصانعهم، التي لم تصمد طويلاً، فقررت أن تواجه الواقع إما بالغلق، أو بتغيير نشاطها، أو بتجاهل المشكلة من الأساس! "مصر للزيوت" تخسر ملايين الجنيهات سنويا.. ومسئول بالشركة المنتجة: لا نواجه أي مشاكل! علي الرغم من هذه المعاناة إلا أن أصحاب المصانع كانوا يكابرون، وينكرون أن ثمة أزمة حقيقية قصمت ظهر الصناعة، إذ تَهرب كثيرون من شرح الحقيقة ل "آخر ساعة"، وكان إيقاع حديثهم علي وتر واحد، أنه لا توجد مشكلة تواجههم سوي عدم توافر العملة الصعبة. الأمر الذي لم نجد له أي منطق، خصوصاً أن عددا من المصانع لم يكن أمامها حل، سوي غلق أبوابها نهائياً، وبالطبع كان الخاسر الوحيد هو الزيت ومعه العمال. كانت الجولة الأولي في مدينة المنصورة، التي تحتضن في مدخلها أحد قطاعات أكبر شركات الزيوت، وهي مصر للزيوت والصابون، التي تتبع القابضة للصناعات الغذائية. كان اختيارنا للمكان بناء علي تقرير للجهاز المركزي للمحاسبات، يكشف فيه أن خسائر الشركة تزداد عاما عن آخر، إذ وصلت خسارتها عام 2013 إلي 11.3 مليون جنيه، مقابل 4.5 مليون جنيه خلال عام 2012، وفي الثلاثة شهور الأخيرة من العام الماضي بلغت الخسارة أكثر من مليوني جنيه. وتنوعت الأسباب وراء هذه الخسارة، تدخلت فيها زيادة المصروفات العمومية والتمويلية والرواتب المقطوعة وبدلات مجلس الإدارة. هذه الخسارة، أثرت بالتبعية علي الإنتاج، بجانب المشكلة الكبري وهي نقص المواد الخام. لكن أحمد الشوربجي، رئيس قطاع الشركة بالمنصورة، قال ل "آخر ساعة" إنه لا يوجد أي نقص في الخامات، بل إن المصنع يعمل بشكل يومي، ويضخ الكميات المطلوبة منه، من قبل وزارة التموين، كما أنهم ينتجون زيتا حرا يستهلكه أهالي الدقهلية ودمياط، مضيفاً: "القابضة للصناعات توفر لنا السيولة المطلوبة، والخامات من زيت الصويا، وزيت عباد الشمس، وزيت بذرة القطن، ونعمل وفق المواصفات المحددة للون والحموضة، ولا ننتج سوي زيوت صالحة للاستهلاك الآدمي، حيث يبلغ إنتاجنا اليومي 100 طن، بينما يصل الإنتاج الشهري نحو أربعة آلاف طن". وتابع: "لا تواجهنا أي مشكلة، سوي عدم توافر العملة الصعبة التي تواجه الجميع". هكذا حاول أن يوضح الشوربجي وضع شركتهم التي لها فروع عدة في مدن؛ القاهرة (الرئيسي)، سندوب، والزقازيق، وميت غمر، وكفر سعد، وبلقاس، لكن الواقع مختلف تماماً؛ في جولة داخل المصنع، لم نشاهد أي مراحل للإنتاج مثل التكرير (فصل الخامات في صهاريج ضخمة ثم نزع الشوائب والروائح الكريهة منها)، لأنه لا توجد مواد خام، وفق شهادة عدد من العمال هناك، الذين صمتوا بإشارة من مسئول الأمن المرافق لنا. وفي غرفة التعبئة، كان هناك حراك محدود؛ الماكينات تعبئ قنينات الزيت، والعمال يضعونها في كراتين، تمهيداً لرفعها إلي سيارة نقل واحدة. تركنا المصنع علي ثقة أن ما شاهدناه هو الواقع، خصوصاً أن عددا من المصانع الخاصة، أوضحت أن المشكلة الحقيقية للصناعة تكمن في عدم توافر مواد الخام، يقول محمود خليل، صاحب مصنع الإيطالية بمدينة كفر الشيخ، إن تدهور الصناعة تزامن مع تراجع الإنتاج الزراعي، خصوصاً محصول القطن، أكثر المحاصيل إنتاجا للزيوت، إذ تراجعت المساحات المزروعة بالقطن إلي 300 ألف فدان، بينما كانت منذ ما يقارب العقدين مليونًا ونصف المليون فدان، وهو ما أدي إلي انخفاض إنتاج الزيوت الزيتية واعتمادنا علي استيراد المادة الخام، بل واستيراد الزيوت الجاهزة. مضيفاً: "ينتج مصنعي 300 طن يومياً، وهو إنتاج ضئيل جداً، مقارنة بكمية الاستهلاك المطلوبة". ربما هذه المصانع وضعها أفضل حالاً من أخري، قررت أن تشرد عمالها، وتغير نشاطها، مثل شركة طنطا للزيوت والكتان، التي كانت من الشركات الرائدة في مصر والعالم العربي في مجال صناعة وتكرير الزيوت النباتية، صارت تعمل علي ورق فقط، أمام المسئولين، وفق ما أكده صلاح مسلم، رئيس اللجنة النقابية للشركة، الذي أعلن ل "آخر ساعة" عن تقديمه بلاغاً للنائب العام، ضد رئيس الشركة والعضو المنتدب بشأن إنفاق ما يقرب من 40 مليون جنيه علي مصنع لإنتاج المياه الطبيعية بالشركة، والذي لم يتم تشغيله، ماتسبب في تعطيل الاستفادة من هذا المبلغ، الذي كان بإمكانه أن ينقذ صناعة الزيت. وأضاف مسلم: "مجلس إدارة الشركة لم ينفذ حكم المحكمة الذي يقر بعودة العمال الذين تمت إحالتهم علي المعاش مبكراً إلي العمل، ورفعنا قضية أخري ضدهم في هذا الشأن، وتم تحديد جلسة لإصدار حكم 25 يونيو المقبل، كما أن المشكلة لا تتوقف حد ذلك، إذ لا يعرف أعضاء مجلس الإدارة الجدد كيفية إدارة المصانع بالشركة، والتي يبلغ عددها تسعة، علي مساحة 74 فدانا، ما أدي إلي انخفاض الإنتاج بشكل كبير خلال السنوات الخمس الماضية، وصاروا لا ينتجون إلا في أيام المراقبة، ويبيعونه بنصف الثمن". هكذا وضع مصانع القطاع العام والخاص، تعاني حالة من التدهور التي تأبي أن تصرح به علناً، كي يتم تجاوزه. وفي دراسة عن اقتصاديات صناعة الزيوت النباتية، للدكتورة زينب دسوقي عيسي، أستاذة الاقتصاد بكلية التجارة جامعة عين شمس، أوضحت أن مشكلة الزيوت الغذائية تنحصر في قلة الكميات المنتجة من زيت الطعام بالنسبة للكميات المطلوبة منه، إذ يعجز الإنتاج المحلي عن تغطية احتياجات الاستهلاك المحلي، ومن ثم اتسعت الفجوة الغذائية خصوصا في السنوات الأخيرة من القرن المنصرم، وتدهورت نسبة الاكتفاء الذاتي للزيوت الغذائية وأصبحنا نعتمد علي الخارج في الحصول علي معظم احتياجاتها، إلي الحد الذي جعل دول العالم المصدرة للزيوت تحدد سعره بناء علي مصر. وأضافت الدراسة أن بيع الزيت لمصر بأعلي الأسعار، يعود إلي اتساع الفجوة الزيتية في مصر والعالم العربي، وبين اتجاه الدول الصناعية لاستخدام الزيوت النباتية كوقود بديلا عن البترول، وتحكم تلك الدول الأجنبية المُصدرة لمنتجاتها من رفع أسعارها واستخدامها الزيوت في إنتاج الوقود، مثل البرازيل التي بدأت ثورة كبيرة في إنتاج الوقود الحيوي من الزيوت النباتية ومن الحاصلات الزراعية بأسعار تقل ضعفين عن تكاليف إنتاجه في الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي تعتمد في إنتاجها علي زيت الصويا وزيت الذرة، أما أوروبا فتعتمد علي زيت اللفيت وزيت العباد. إضافة إلي ذلك، أوضح المهندس أيمن قرة، رئيس شعبة الزيوت بغرفة الصناعات الغذائية، ل"آخر ساعة" أن ما تواجهه صناعة الزيوت أكثر من مشكلة، من أهمها أن مصر تعاني من فقر مائي، بالتالي لا يتم زراعة المحاصيل المطلوبة للصناعات، كما أنه لا يوجد دعم للفلاح، الذي لا يجد ربحية من زراعة عباد الشمس أو فول الصويا علي سبيل المثال، متابعاً: "لذلك لا يمكن أن نقول إن الصناعة متدهورة، لكن تعاني من بعض التعثرات، التي تدفع المصانع إلي الغلق، إذ لا يتجاوز إنتاج مصر 5% من الزيوت النباتية، ونستورد نحو مليونا ونصف مليون طن زيت سنوياً".. ورغم نسبة الإنتاج الضئيلة جدا، يطالب قرة بعدم تضخيم الأمور؛ لأن الصناعة تنافسية، ولا توفر الربحية المطلوبة لأصحابها، كما أن هناك مشكلات يجب الالتفات إليها، مثل مصانع "بير السلم" التي تنتج زيوتا غير صالحة للاستهلاك الآدمي وتقلد زيوت الشركات الأخري، مشيراً إلي ضرورة تسهيل إجراءات إنشاء المصانع، حتي تدخل جميعها في الإطار الرسمي، ما يساعد علي النهوض بالصناعة. لا يشعر الشارع المصري بما أصاب صناعة الزيوت من تدهور، خصوصاً أن الدولة تضخ للسوق زيوتا مستوردة، وهو ما أوضحه وليد الشيخ، نقيب البقالين، الذي قال ل "أخر ساعة": "لا يمكن إنكار أن هناك أزمات تعاني منها الصناعة، خصوصاً أن في بدايات العام الجاري واجهنا نقصا في المواد الخام التي نستوردها من روسيا بشكل ملحوظ، ونحاول توفير احتياجات المواطن، خصوصاً الذي يملك بطاقة تموينية، إذ تصل حصة الجمهورية من زيت التموين 150 ألف طن شهرياً، تكفي نحو 69 مليون مواطن، وفي الوقت الراهن توجد كميات كافية من الزيت".