عندما تضيق الدنيا بالبشر وتتزايد أزماتهم النفسية والعاطفية إضافة إلي المشاكل الاقتصادية التي حاصرت الشباب من بطالة وفقر مدقع ورثوه عن آبائهم لايجدون وسيلة للتخلص من تلك الأزمات غير الانتحار الذي يجدونه حلا لجميع مشكلاتهم التي يظنون ربما تتحقق في الآخرة بعد تعسرها في الدنيا وقد يعتقد البعض أن مصر ليست في مصاف تلك الدول التي تشهد هذه الحوادث البائسة ولكن بحسب الدراسة التي أعدها المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية أقرت بأن نسب الانتحار في السنوات الأخيرة وصلت إلي 22٪ بين الشباب والفتيات وذلك بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وتفشي البطالة خاصة في السنوات القليلة التي تلت ثورة يناير ناهيك عن تزايد نسب العنوسة والطلاق المبكر. ولنا أن ندرك حجم الكارثة المحيطة بشبابنا فبالرغم من أن الانتحار هو ثقافة غريبة حرمها الدين الإسلامي والكنيسة علي السواء حيث تنتشر بصورة أكبر في أوروبا وأمريكا إلا أنها ألقت بشباكها حولنا وتختلف أسبابها من منتحر لآخر فالمشكلات العاطفية وكيوبيد الحب قد يكون دافعا لفقدان الحياة من فشل في الارتباط بالحبيب أو الحب من طرف واحد فيلجأ الحبيب للتخلص من حياته ليترك حبيبته تتلقي لوعة الفراق وحدها، كما تتربع الظروف الاقتصادية علي رأس الأسباب خاصة بعد حالة التشويش السياسي التي تعيشها المحروسة فتفشت البطالة بين الصفوف وأصبح كثير من الشركات علي حافة الإفلاس لتلقي بملايين العمال في الشارع يقاسون قسوة القدر. وبالطبع تختلف وسائل الانتحار بحسب الوسط الاجتماعي والدرجة العلمية مابين تناول المبيدات الحشرية والمواد المخدرة وتعتبر تلك الوسيلتين هما الأكثر شيوعا خاصة أنه لايوجد قانون يحرم بيع المبيدات للاستخدامات المنزلية كذلك الانتحار بالحرق عن طريق سكب الكيروسين علي نفسه وإشعال النيران وتختلف طرق انتحار الفتيات عن الشباب فتلجأ الفتاة إلي تناول كمية كبيرة من الأقراص المنومة أو المهدئة لتلقي بنفسها إلي الموت أو تلجأ إلي قطع شرايينها لتتعرض إلي نزيف لايجدي معه تدخل الأطباء فتلحق برقيقها الأعلي مكللة بآهات الشفقة ودعوات بالرحمة التي قد لاتصيبها فبالرغم من كونها جانية إلا أن هناك جناة أكثر ظلما دفعوها للتخلص من حياتها بقسوتهم وجشعهم. أمارجل الأعمال فيلجأ للانتحار بإطلاق النار علي نفسه أو الشنق أما العاطلون فإما بقطع شرايين اليد أو تناول سم الفئران. والمؤسف أيضا أن تاريخنا مليء بحوادث انتحار فرضها الظلم والقسوة وغياب العدالة الاجتماعية في فترات الحكم البائدة ففي عهد محمد علي نتيجة للتحولات الاقتصادية والاجتماعية الصادمة التي تعرض لها الشعب والتي أدت لنقص مياه الفيضان في فترات حكمه الأولي أدي ذلك لحالات انتحار جماعي للمزارعين الذين طالهم الخراب وجعلهم يقعون تحت سطوة المرابين الأتراك كما كانت فترات الكساد العالمي الذي ضرب العالم كله في الثلاثينات سببا في تزايد أعداد المنتحرين وعلي الأخص في الطبقة الفقيرة الأكثر تأثرا بمثل تلك الأزمات. وبعيدا عن الانتحار بسبب ظلم الحكام فإن هناك حالات انتحار كان بطلها الحب والهيام ولنا قصص طويلة في هذا السياق فهاهي كليوباترا السابعة تستخدم "الكوبرا" الأثيرة لديها لتنتحر بسمها بعد سماع خبر انتحار زوجها وحبيبها أنطونيوس بعد هزيمته في الحرب ففضلت اللحاق به علي أن تعيش وحيدة بعيدة عنه ولا يمكن أن ننسي خبر انتحار عاشقات العندليب عبدالحليم حافظ فور سماعهن خبر وفاته توالت حوادث انتحار فتيات عشقن الصوت الحنون والقلب الدافيء لتتحول شوارع القاهرة إلي بحر من دماء فتيات في عمر الزهور عشقن بما تحمل تلك الكلمة من معان. أما الفنانة المصرية ذات الأصول الإيطالية داليدا فلا أحد يعلم إلي الآن سبب انتحارها في العام 1987حيث وجدتها خادمتها ملقاة علي سريرها بسبب تناولها جرعة زائدة من الأقراص المنومة، وإلي جوارها رسالة كتبت فيها "الحياة أصبحت غيرمحتملة.. سامحوني". حكايات كثيرة عن الانتحار كان الفقر والحب والبطالة وراءها ومن بينها قصة "محمود" ذلك الشاب المتفوق الطالب بكلية الهندسة الذي فقد حياته ثمنا للحب الطاهر الذي جمعه مع "سمر" إحدي زميلاته بالكلية. تبدأ خيوط تلك القصة عندما التحق بطل قصتنا بكلية الهندسة بعد تفوق مشهود من جميع أساتذته الذين تنبئوا له بمستقبل باهر وعقد العزم علي تحقيق أمنية والديه باستكمال مسيرة تفوقه بالكلية فغادر قريته الكائنة ببني سويف إلي القاهرة أم الدنيا ومنذ اليوم الأول للدراسة أثبت نيته هذه وحرص علي حضور جميع المحاضرات والتقرب من الأساتذة الذين خطف قلوبهم بعقله وحنكته ولم يكونوا وحدهم من أعجبوا به فهذه"سمر "تلك الفتاة السمراء خفيفة الدم وقعت في عشقه وتمنت لو يبادلها هذا الحب ودعت الله أن يحقق لها رجاءها وأمنيتها حتي تحقق لها ماأرادت فقد جمع بينهما أحد الأبحاث المطلوبة منهما فغديا وراحا سويا بين أرجاء المكتبة وطرقات الكلية حتي افتتن بذكائها ورجاحة عقلها وغدت فتاة أحلامه وصارحها بحبه ولك أن تتخيل الفرحة التي سرت في قلبها وكيانها ككل وأصبحا أشهر عاشقين بالكلية وعاهدا أنفسهما أن يكملا مسيرة حياتهما سويا ويؤسسا عشا هنيئا يجمع بينهما في الحلال. ولكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن فكباقي الفتيات انهالت عروض الزواج علي العاشقة الصغيرة ولكنها كانت وفية لعهدها مع حبيب قلبها حتي بدأ الشك يخيم حول عقل والدها عن أسباب رفضها الزواج فطلبت من "محمود"أن يسارع بطلب خطبتها من والدها فيطير من الفرحة ويقرر زيارتهم لإبداء رغبته في الزواج من معشوقته. إلا أن الأب يرفض تلك الزيجة رفضا تاما بحجة ضيق يد العريس وعدم الانتهاء من استكمال تعليمه لينزل الخبر كالصاعقة علي عقل وقلب الشاب البسيط وتقرر فتاته أن تتصدي لوالدها برغبتها المحمومة في الزواج من حبيب قلبها إلا أن والدها ينهال عليها ضربا ويكيل لها أبشع الألفاظ .. فما كان من محمود إلا أن يتخلص من حياته التي لم يجد فيها معني بعيدا عن "سمر"ليجهز حبلا في سقف غرفته التي يسكنها بإحدي المدن الجامعية بالقاهرة ويقرر شنق نفسه ويقبل علي الموت بصدر رحب كأنه طوق نجاته من تلك الحياة المادية المتعفنة ليفاجأ به زملاؤه معلقا في السقف وشبه ابتسامة علي وجهه . وإذا كان هذا الشاب قد تخلص من حياته بفعل الحب الفاشل فإن ثمة أناسا آخرين أقبلوا علي تلك الخطوة غير المحسوبة بفعل الاكتئاب والإحباط المزمن الناجم عن الخلافات الزوجية وشبح العنوسة الذي لم يترك بابا إلا وطرقه كأنه"ملك الموت"لايترك أحد يهنأ بحياته فهاهما "شيرين وفاتن"شقيقتان ولدتا لأب يعمل مزارعا أجريا قد يحالفه الحظ ليعمل يوما ولايجد قوت يومه بقية الشهر وبالرغم من الجمال الصارخ الذي حباه الله لبنتيه إلا أن الفقر وقف في سبيل يسر زواجهما أو الحصول علي عريس ثري فأوقع الحظ بالشقيقة الكبري "فاتن" بأحد الرجال الذي تعدي الخامسة والأربعين ويعاني من أمراض مزمنة جعلتها تقضي يومها في تمريضه ولم ينته الأمر عند هذا الحد بل قرر الزواج بأخري فالشرع أعطاه الحق في الزواج بأربع لتترك الزوجة البائسة منزل الزوجية ولكن تفاجأ بوالدها ينهرها عما بدا منهامن مغادرتها عش الزوجية فالأحوال لاتسر عدوا ولا حبيبا وأمام ضغط والدها تقرر الانتحار بتناول سم الفئران لتترك شقيقتها"شيرين"تكابد عار انتحار شقيقتها فأصبح حائلا لزواجها هي الأخري فيتقدم بها العمر وتصبح قريبة من شبح العنوسة وفراق والدها الذي حاصرته الأمراض بعد فاجعة شقيقتها لتقرر هي الأخري الانتحار بنفس طريقة شقيقتها بتناول سم الفئران لتترك والدها يفارق حياته وحيدا وغريبا بعد هجره بلدته بعد فقدان فلذات كبده . الخبراء كان لهم رأي في تلك الظاهرة تقول د. فادية أبوشهبة استاذ القانون بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية: هناك صور مختلفة للانتحارالذي يعد المأساة تصيب المجتمع ويكمن سببها في الشعور بالفشل والإحباط أهم أسباب الإقدام علي الانتحار مشيرة إلي أن الإحباط يولد العنف سواء ضد الذات »النفسي« أو الآخرين. وقالت إن للفشل أشكالا كثيرة منها الفشل في الحب أو التجارة أو العمل بما يعني أنه فشل عاطفي أو اقتصادي أو اجتماعي إلي جانب الفشل النفسي المتمثل في تعاطي المخدرات. أضافت د. فادية أن الضغوط الحياتية والفقر والأزمة الاقتصادية والظروف المادية تصيب الإنسان الضعيف بالإحباط أما الإنسان القوي المتعلم القارئ للقرآن المتمسك بدينه سواء الإسلامي أو المسيحي فيكون أكثر تماسكا ضد الأزمات التي يتعرض لها المجتمع، بالإضافة إلي غياب الدور التربوي والتوجيهي في المؤسسات التعليمية الذي أدي إلي خلق أفكار جديدة لا تنتمي إلي أي قيم أو أخلاق ناتجة عن الشطط في التفكير والتقليد لأفكار المجتمعات الأخري التي تتفشي بها الأمراض. ويتفق معها الدكتورأحمد يحيي – أستاذ علم الاجتماع جامعة قناة السويس – قائلا ً: إن المشكلات الاقتصادية والعاطفية أحد أهم العوامل الدافعة للانتحار في مصر كما أن وسائل الإعلام تقوم بتقديم رسالتها بطريقة مشوهة وغير ظاهرة المعالم تصل إلي مستقبلها وخاصة للجمهور العريض من الشباب بطريقة تجعله يتخبط في اتخاذ القرارات، وتتجه به إلي منحني خطير تصعب العودة منه، كما أن الإسراف في بث المواد الإعلامية التافهة والتي تؤجج الشهوة وتنال من العادات والتقاليد الثابتة تساعد في انتشار هذه الجريمة. أما عن رأي الدين فيقول الدكتور محمد رأفت عثمان أستاذ الفقة المقارن بكلية الشريعة والقانون بالقاهرة وعضو مجمع البحوث الإسلامية. إن شخصية المنتحر تبين أنه إنسان ضعيف الإرادة وليس لديه القدرة علي الصمود أمام بعض ما يعتري الإنسان العادي في حياته من مشكلات ومآس.. لأن الإنسان السليم نفسيا إذا تعرض لأي مشكلة مالية أو عاطفية أو غيرهما فإنه يحاول أن يدرس مشاكله ويستفيد من أخطائه ويعمل علي التغلب عليها.. إلا أن الوازع الديني عند من يقدم علي الانتحار ضعيف جدا.لأن الدين عاصم من أن يقتل الانسان نفسه او غيره .. كما جاء في قوله تعالي : { لاتقتلوا أنفسكم أن الله كان بكم رحيما } إلا أن هؤلاء نفوسهم ضعيفة لأنهم لا يعرفون أن الصبر عند الابتلاء من الله له ثواب.. وردا ً علي سؤال . هل المنتحر كافرمن الناحية الشرعية؟ يتابع الدكتور عثمان: أنه إذا كان عارفا بتحريم قتل النفس ومع ذلك استحل العمل وفعله بوصفه حلالا .. في هذه الحالة يكون كافرا حسب القاعدة بأن من أنكر شيئا معلوما من الدين بالضرورة فهو كافر .. أما إذا كان فعل ذلك اعتقادا منه أنه حرام ولكن نفسه الضعيفة دفعته للفعل نتيحة أزمات نفسية أو اقتصادية فإنه لا يكون كافرا ولكن يكون مؤمنا عاصياً فاسقاً.. مثله في ذلك مثل من يعرف أن السرقة والزنا حرام ولكن نفسه تدفعه لارتكاب هذه المعاصي.