يلجأ معظم الساسة بعد تركهم مناصبهم والابتعاد عن ملعب السلطة إلي كتابة مذكراتهم، فتخرج الحكايات بعد أن كانت خلف الأبواب المغلقة وتسرد المواقف وربما تكشف الأسرار بالتفاصيل التي لم تعكسها عشرات الآلاف من العدسات التي تتبعتهم وعدت عليهم أنفاسهم أثناء وجودهم في الحكم.. تلك الأسرار والقصص تتعاظم أهميتها وخطورتها كلما ارتبط هذا السياسي بدولة عظمي أو بأحداث جسام غيرت العالم.. ومن ثم فإن الكشف عن تلك الأسرار تسلط عليهم الأضواء مجدداً وتبقي هدفاً لهم وللناشرين وعمالقة صناعة الميديا لتحقيق أرباح طائلة وربما مكاسب سياسية أيضاً.. وها هي هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ومرشحة الديمقراطيين المحتملة لماراثون الانتخابات الرئاسية 2016 تحقق الاثنين معاً بكتابة مذكراتها "خيارات صعبة". من خلال كتابها، الذي تقاضت فيه 8 ملايين دولار والصادر في 10 يونيو الحالي، عن دار النشر "سايمون وشوستر" التابعة لمجموعة شركات CBS الأمريكية، حاولت كلينتون أن تنأي بنفسها عن مواقف الإدارة الأمريكية وقرارات الرئيس باراك أوباما في أهم الملفات والقضايا الدولية لأكثر فترات التاريخ اشتعالاً أثناء قيادتها وزارة الخارجية منذ عام 2009 وحتي 2013 مما دفع البعض بوصف المذكرات بأنها مجرد محاولة منها لتلميع صورتها وصورة من بإمكانهم مساندتها وإزاحة أي اتهام ممكن أن يلحق بها بسبب الحملات الشرسة التي يشنها الجمهوريون ضدها لأسلوب تعاملها مع الهجمات الدامية التي تعرضت لها القنصلية الأمريكية في ليبيا عام 2012 تمهيداً لخوض الانتخابات الرئاسية رغم إنها ذكرت في الصفحة 595 أنها لم تحسم قرارها بعد، وفقاً لما ذكره الكاتب الأمريكي "ديفيد إغناتيوس" في صحيفة "واشنطن بوست. ويعزز الكتاب ما اشتهرت به كلينتون كدبلوماسية قوية حملت العلم الأمريكي إلي 112 بلداً؛ لكن متن الكتاب يقوم بأكثر من مجرد رصد الأميال التي قطعتها في تنقلاتها وزياراتها عبر العالم؛ حيث يقدم دلائل علي ما أظهرته كلينتون من حسن التقدير كوزيرة للخارجية وفهم جيد لبعض المواضيع المهمة، قبل رئيسها أوباما. وتروي كلينتون في كتابها الذي يتألف من 600 صفحة، لقاءاتها مع زعماء العالم وتعاملها مع الملفات الساخنة للقضايا الدولية منها الوضع السوري وملف إيران والبحرين والربيع العربي "مصر وتونس وليبيا" والعلاقات الروسية وشبه جزيرة القرم، وغيرها من الملفات الرئيسية بالنسبة إلي الولاياتالمتحدة، بالإضافة إلي القرارات التي اتخذتها بشأنهم و"الخيارات الصعبة" التي واجهتها في منصبها وكجزء من الإدارة الأمريكية. كما يتناول الكتاب الخلاف في الرؤي بينها وبين أوباما فيما يخص تسليح المعارضة السورية وانسحاب القوات من العراقوأفغانستان. ووفقاً لتقرير أوردته صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية عن الكتاب، انتقدت الوزيرة السابقة في كتابها إدارة أوباما واصفة أياها بالمتسرعة في سحب دعمها للرئيس المخلوع حسني مبارك. وقالت " مثل العديد من الشباب حول العالم، كان بعض مساعدي أوباما من الشباب في البيت الأبيض، قد انجرفوا وراء موجة الدراما والمثالية التي فجرتها اللحظة، وهم يتابعون مشاهد من ميدان التحرير علي شاشات التليفزيون، وشعروا بتوحدهم مع المطالب الديمقراطية وسهولة التواصل الاجتماعي والتكنولوجي الذي أظهره المتظاهرون الشباب في مصر. والواقع أنه بالفعل شعر الكثير من الأمريكي بالتأثر لمشهد شعب طال قمعه، ينتفض ليطالب أخيراً بحقوقه، رافضاً القوة المفرطة التي استخدمتها ضده السلطات؛ ولقد كنت شخصيا أشاركهم هذه المشاعر.. كانت لحظة مؤثرة." وتابعت "لكن كان هناك قلق يساورنا، أنا ونائب الرئيس جو بايدن ووزير الدفاع روبرت جيتس ومستشار الأمن القومي توم دونيلون، من أن ينظَر إلينا علي أننا نلقي بحليف عتيد لنا خارجاً، تاركين مصر وإسرائيل والأردن والمنطقة كلها لمستقبل خطر وغير معلوم." ولفتت كلينتون إلي أنها سبق وقدمت المشورة لأوباما بشأن ثورة 25 يناير، موضحة أنها حذرت أوباما من الضغط علي مبارك للتنحي عن الحكم. وأضافت أنها في أحد البرامج التليفزيونية قالت بشأن الأوضاع في أثناء 18 يوما للثورة: "إننا نأمل في رؤية انتقال سلمي ومنظم لنظام ديمقراطي، وتعمدت استخدام وصف انتقال منظم وليس فوريا للسلطة، علي الرغم من أن البعض في البيت الأبيض كانوا يريدون مني التلميح بضرورة رحيل مبارك حتي لو لم أطالب به صراحة." واختلفت أيضاً كلينتون مع أوباما بحسب ما ذكرته بكتابها، حول الملف السوري، حيث أعلنت منذ بدء النزاع في سوريا عن اقتناعها الكامل بأن تسليح وتدريب المعارضة السورية هو الوسيلة الأمثل لمواجهة قوات بشار الأسد. وتابعت أن التدخل أو عدم التدخل كليهما ينطويان علي مخاطر عالية؛ إلا إن الرئيس الأمريكي كان يميل إلي إبقاء الأمور علي حالها وعدم المضي قدما في تسليح المعارضة. وأعربت في مذكراتها عن اعتقادها بأن أوباما ارتكب خطأ كبيراً، إلا أنها كتبت قائلة "لا أحد يحب أن يخسر نقاشاً وأنا منهم؛ لكنه قرار الرئيس واحترمت تحليله وقراره." وفيما يتعلق بالشأن الإيراني، رأت كلينتون أن قرار إدارة أوباما بالصمت حيال التظاهرات السياسية التي خرجت ضد إعادة انتخاب الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد في 2009 كان قراراً خاطئاً أيضاً. وقالت "لست متأكدة من أن تهدئتنا كانت الخيار الصحيح، فهي لم توقف النظام الإيراني عن سحق معارضيه بلا هوادة." وأضافت أنه إذا كانت الولاياتالمتحدة أرسلت رسالة حادة إلي الحكومة الإيرانية، فربما كان ذلك سببا في منع الوصول لهذه النتيجة أو تسريع الوصول إليها، إلا أنه ليس هناك سبيل لنعرف الآن ما إذا كان بإمكاننا إحداث تغيير." وتطرقت كلينتون إلي قضية أخري شائكة بالنسبة للأمريكيين، وهي الهجوم الذي استهدف البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي عام 2013 والذي أدي إلي مقتل أربعة أشخاص من بينهم السفير الأمريكي كريس ستيفينز، وهو هجوم يستغله خصومها من الجمهوريين للنيل منها فيتهمونها بعدم قول الحقيقة والتستر علي الأسباب الحقيقية وإظهار فشلها في إدارة الأزمة. لكن الكتاب يقدم دفاعاً قوياً عن الوزيرة. وتابعت إنها ناشدت أوباما انتهاج نهج أكثر قسوة تجاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي وصفته بالمستبد وسريع الغضب، قبل فترة وجيزة من تركها للمنصب في 2012. وأضافت قائلة "حاملة كل ذلك في عقلي، اقترحت أن نؤسس لنظام جديد، فإعادة ضبط الأمور تسمح لنا بالتقاط الثمار القريبة فيما يتعلق بالتعاون الثنائي، ومن هنا، لن نكون بحاجة لنسف تعاوننا حيال كل من إيرانوأفغانستان." واستطردت "لكنه ينبغي علينا تعليق الجهود الجديدة، وعدم الظهور وكأننا حريصون علي العمل سوياً، وعدم التملق لبوتين بمستوي عال من الاهتمام." كما أوضحت أنه في الوقت الذي كانت فيه من مؤيدي زيادة عدد القوات في أفغانستان، قرر أوباما وضع حد لانسحاب القوات الأمريكية من البلاد في غضون 18 شهراً. ولم يختلف الكثير من المحللين وافتتاحيات الصحف في آرائهم حول الكتاب، حيث اتفقوا مع إغناتيوس بأن الكتاب ما هو إلا خطاب دعائي لمرشحة عازمة علي خوض الانتخابات. فانتقدت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية بشدة الكتاب في مقال بعنوان "كتاب كلينتون السيئ". حيث وصفت المذكرات ب"المملة والمحبط للقراء، ويمكن أن يصنف كبيان موجز عن أصحاب النفوذ والقائمين مقامهم. واعتبرت المجلة أن الكتاب لم يكشف فيه عن حقائق، كما أنه يبدو وكأنه مسخر لخدمة كلينتون نفسها بتلميع صورتها، من أجل دخول البيت الأبيض مجدداً ولكن كرئيسة للولايات المتحدة. وقالت المجلة إن هناك العديد من الوقائع التي ذكرتها كلينتون في كتابها جعلت منه كتاباً سيئاً، ولعل من أبرزها ما ذكرته عن الثورة المصرية ومبارك. فيما ينقل الباحث الامريكي اريك تراجر، بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدني، عن كلينتون من مذكراتها حين قالت إن الولاياتالمتحدةالأمريكية ستقوم بكل ما يلزم لضمان سلامة الشعب الأمريكي والحفاظ علي مصالحه ولو تطلب ذلك الدخول في تحالفات أو العمل المشترك مع شركاء مختلفين تماماً مع الأفكار الأمريكية. ويضرب تراجر مثلاً بموقف تحالف وتعاون كلينتون مع حكم الإخوان في مصر. وفي لقائها مع شبكة (ABC) الأخبارية الأمريكية، صرحت إنها هي وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون عندما تركا البيت الابيض في يناير 2001 كانا مفلسين ومثقلين بالديون، التي قدرت بنحو 12 مليون دولار. إلا أنهما خلال السنوات الماضية استطاعا سداد ديونهما بكتابة الكتب وبيعها وإلقاء خطب في أماكن كانا يترددان إليها بانتظام. وجمعت كلينتون التي كانت تحصل علي 200 ألف دولار مقابل خطاب واحد، نحو خمسة ملايين دولار منذ تنحيها العام الماضي من منصب وزيرة الخارجية.