كتابة المذكرات عمل اعتاد الكثير من الساسة القيام به عقب انتهاء خدمتهم.. في حياة كل سياسي أو حاكم معروف أسرار ومواقف لا تعكسها بالضرورة عشرات الآلاف من الفلاشات التي تلتقط له وتعد عليه أنفاسه أثناء وجوده في السلطة.. تلك الأسرار تتعاظم أهميتها وخطورتها كلما ارتبط اسم هذا السياسي بدولة عظمي أو شاهد عيان علي قرارات هامة اتخذت خلف الأبواب المغلقة، أو أحداث جسام غيرت خريطة العالم.. ومن ثم فإن الكشف عن تلك الأسرار وتقديمها للقراء في صورة مذكرات أو سيرة ذاتية تبقي هدف الناشرين وعمالقة الميديا لا سيما إذا ما تخلي هذا السياسي عن منصبه وعمله العام وتحدث بتلقائية ودون أي تحفظات أو دبلوماسية. ويحتل الشرق الأوسط حيزاً هاماً في مذكرات تلك الشخصيات، خاصة السياسية منها مثل "قرارات حاسمة" للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش و"زمن الرئاسة" للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك، و"رحلة" لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير وكان آخرهم "الواجب" لوزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت جيتس. أوباما فاقد الثقة بقراراته .. هيلاري ذكية ونموذج مشرف لبلدها نائب بوش جعل واشنطن رهينة لصنع القرار الإسرائيلي باتت مذكرات جيتس حديث الأوساط السياسية الأمريكية، بعد الهجوم الضاري الذي شنه علي الرئيس باراك أوباما وإدارته واصفاً إياه بفاقد الثقة بصحة قراراته. كما وجه الانتقادات لبوش وإداراته هي الأخري لسهولة القرارات التي اتخذتها بغض النظر عن العواقب السياسية الداخلية. فقد أفصح جيتس، عما كان يدور طيلة وجوده بدائرة صنع القرار كوزير للدفاع بين عامي 2006 وحتي 2011 بإدارة رئيسين من حزبين مختلفين، وأصعب الأوقات والقرارات التي صدرت من المكتب البيضاوي، لحربي العراقوأفغانستان والملف السوري وثورات الربيع العربي وغيرها من ملفات السياسة الدولية الأخري. مما جعل هذه المذكرات بمثابة كرات لهب أشعلت البيت الأبيض والإدارة الأمريكية بعد أن طالت العديد من صقورهما. ويري بعض المحللين أن المقتطفات التي نشرت من كتاب جيتس الذي يضم نحو 15 فصلاً ويحمل عنوان "الواجب.. مذكرات وزير أثناء الحرب"، قد يكون لها أثرها علي انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في عام 2016 خاصة في الجزء المتعلق بوزيرة الخارجية الأمريكية السابقة هيلاري كلينتون، التي اعتبرها ذكية ومثالية ومرحة وسفيرة ممتازة للولايات المتحدة في الخارج، ولكنها براجماتية ومتصلبة في الرأي، لا تعرف الكلل، وزميلة عزيزة إليه. فيما أكد جيتس أن هيلاري اعترفت أمامه وأمام أوباما بأنها عارضت استراتيجية زيادة القوات في العراق لأسباب سياسية فقط في أثناء معركتهما في الانتخابات التمهيدية داخل الحزب الديمقراطي بولاية أيوا الأمريكية، فيما أقر الرئيس بشكل غامض أن المعارضة تجاه زيادة القوات في العراق كانت سياسية. وعلق علي هذه التصريحات قائلاً "كي نسمع الاثنين يقدمان هذه الاعترافات أمامي كان مدهشاً بقدر ما كان مفزعاً." وعرض وزير الدفاع الجمهوري ألبوم صور لعدد من الاجتماعات التي عقدت بناء علي ملاحظات قدمها هو ومساعدوه في ذلك الوقت، كان من بينها المراسلات بين أوباما وهيلاري التي كان يصفها بالمتميزة. وجيتس الذي يبلغ من العمر 70 عاماً، معروف بشخصيته الهادئة التي نادراً ما تظهر غضباً أو إحباطاً، فلا أحد يمكن أن يحدد مكانه، هنا يكمن سر قوته، علي حد وصف "جريج جافي" المحرر العسكري والمختص بشؤون البنتاجون بصحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، فهذا يسمح له بالانقضاض في آخر لحظة والتوسط في أي صفقة تعقد بالشروط التي يقبلها، كل ذلك جعل أوباما يبقيه في منصبه وزيراً للدفاع بعدما عينه سلفه بوش خلفا لدونالد رامسفيلد للإشراف علي خطة زيادة القوات في العراق. ويأخذ جيتس القراء إلي ما وراء الكواليس في غرفة المداولات للحرب الأمريكية التي قادها بوش وأوباما، حيث قال إنه منذ اليوم الأول في إدارة أوباما سادت الشكوك وانعدام الثقة بين كبار مسؤولي البيت الأبيض، بمن فيهم الرئيس ونائب الرئيس، تجاه كبار الضباط، فخلق ذلك له مشكلة كبيرة، وحاول أن يدير العلاقة بين القائد الأعلي وقادته العسكريين. وفي عام 2009 قام جيتس بعزل الجنرال "ديفيد ماكيرنان" قائد القوات الأمريكيةبأفغانستان، معلناً أنهم في حاجة إلي طريقة تفكير جديدة ونهج جديد لاستكمال الإستراتيجية التي أرساها أوباما في الحرب ضد القاعدة وطالبان.وأوضح جيتس، الذي ترك البيت الأبيض وهو أحد مؤسسي السياسة الخارجية، عدم إيمانه وحماسه للحرب التي شنتها الولاياتالمتحدة في كل من أفغانستانوالعراق، ورغبته الملحة للخروج سريعاً. وعن الرئيس أوباما، قال جيتس في كتابه إن الأخير وصل إلي مرحلة فقد فيها الثقة بجدوي قراره بزيادة عدد القوات الأمريكية في أفغانستان، مضيفاً أن هذه المشاعر لدي أوباما تعززت بسبب تصرفات عدد من المستشارين المدنيين المحيطين به، والذين زوده بتقارير سلبية تشير إلي فشل الخطة. ويشير في كتابه إلي اجتماع عقد في البيت الأبيض عام 2011 بدا خلاله أن الرئيس الديموقراطي لم يعد مقتنعاً بالاستراتيجية التي قررها قبل 18 شهراً بإرساله 30 ألف جندي إضافي، في محاولة أخيرة لتعزيز الاستقرار هناك قبل عملية الانسحاب علي مراحل التي بدأت في منتصف عام 2011. وعلق جيتس في كتابه قائلاً "كنت هناك وقلت لنفسي؛ الرئيس يشكك في قدرات الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات في أفغانستان ولا يمكنه تحمل الرئيس الأفغاني حامد كرزاي ولا يؤمن باستراتيجيته التي اعتمدها شخصياً ولا يعتبر هذه الحرب حربه فالأمر يتعلق بكل بساطة بالانسحاب." وأوضح "لم أشك أبداً في دعم أوباما للقوات وإنما في تأييده لمهمتهم، لنظراً لأن أوباما أعرب أثناء حملته الرئاسية، عن معارضته لغزو العراق فقط، فيما أظهر اقتناعه التام بأهمية الحرب التي شنتها واشنطن ضد أفغانستان ويري أنها كانت رداً ضرورياً علي هجمات 11 سبتمبر، والتي ينبغي توفير مزيد من الدعم العسكري لها حتي تنجح وتحقق الأهداف المبتغاة منها. وبحسب مذكرات جيتس، تسيطر علي أوباما حالة من الشك تجاه المؤسسة العسكرية التي تشير عليه بالخيارات المختلفة. وقد أنتجت الآراء المستقبلية المختلفة التي عرضتها المؤسسة العسكرية علي أوباما إلي حدوث تصدع، علي الأقل بالنسبة لجيتس، الذي سبب ألماً كبيراً علي المستوي الشخصي وأصبح من الصعب التئامه. ويكتب جيتس، عن أوباما بشيء من التناقض، الذي لم يذكر أسباباً له، فأشاد به واصفاً إياه بأنه رجل يتمتع بنزاهة شخصية، وأنه كان محقاً في جميع القرارات التي اتخذها بشأن أفغانستان. وأثني علي قراره الجريء بتنفيذ عملية قتل زعيم تنظيم القاعدة "أسامة بن لادن". إلا أنه في نفس الوقت انتقد البيت الأبيض والاستخبارات الأمريكية للكشف عن الإجراءات وخطة القوات الخاصة التابعة للبحرية الأمريكية "سيلز" في عملية بن لادن. كما وجه جيتس انتقادات جارحة لنائب الرئيس جو بايدن الذي قال إنه لم يتخذ قراراً صائباً في السياسة الخارجية. وقال عنه إنه كان يفسد الأجواء ضد قيادة الجيش الأمريكي. وأضاف أن الثقة كانت مفقودة في تعاملاته مع أوباما وفريقه، ووصف البيئة التي يعملون بها بالقبيحة وأكد أنه لم يكن يحتمل الجلوس للاستماع لاستجواباتهم. وكتب أنه غضب بشدة من الرئيس الديمقراطي في جدل في شأن نفقات الدفاع، إذ شعر أنه فقد الثقة في شخصه، فيما يتعلق بالموازنة. وتتضمن مذكرات جيتس أول معلومات يكشفها مسؤول وسياسي مخضرم في واشنطن بشأن موقف بلاده من الاحتجاجات التي اجتاحت المنطقة خلال ما يعرف بالربيع العربي في 2011. حيث كشف جيتس في مذكراته أنه حذر من الإطاحة المتعجلة بالرئيس المصري حسني مبارك. وذكر أيضاً أنه علي الرغم من النصيحة التي أسداها هو وآخرون لأوباما بعدم الإفصاح عن مضمون مكالمته التليفونية مع الرئيس المصري، فإن أوباما، كما كتب جيتس، "تجاهل النصيحة التي أجمع عليها كبار مستشاريه للأمن القومي ليأخذ جانب صغار أعضاء الفريق في ما يخص ما سيقوله لمبارك وما سيقوله علناً، ومنها قوله لمبارك إن التغيير يجب أن يبدأ الآن. كما أن جيتس تناول الإحباط الذي تزايد لديه بعد هذه الواقعة بسبب تمادي هؤلاء الصغار من فريق الرئيس في إسداء النصائح وإبداء الآراء رغم عدم خبرتهم الكافية في شؤون السياسة الخارجية. وبحسب ما جاء نصاً بمذكراته، "يوم اندلعت المصادمات والاشتباكات بين مؤيدي ومعارضي مبارك، تناولت الغداء مع كبير الموظفين في البيت الأبيض "بل دالي"، الذي لم يمضِ علي وجوده في منصبه أكثر من شهر، كان رجلاً ذكياً، حاد الذهن، وبينما كنا نتناول الغداء قال لي إنه كان في لقاء مع مجموعة من الصحفيين والإعلاميين حول ما يحدث في مصر، لكنه توقف مع نفسه للحظات ليتساءل: ما الذي أعرفه عن مصر بحق الجحيم!! واعترف أن نفس التفكير انتابه وهو ينظر إلي "بن رودز" في لقاءات مجلس الأمن القومي التي عقدت قبلها بيوم. وأجبته بأن بن رودز، وهو بالمناسبة كاتب خطبة أوباما الشهيرة التي ألقاها في جامعة القاهرة، يعتقد في قوة بلاغة أوباما وتأثير التواصل مع الرأي العام، لكنه ليس واعياً للمخاطر التي يمكن أن يخلفها فراغ في السلطة في مصر، أو المخاطر التي يمكن أن تنجم عن التسرع في إجراء انتخابات لا يوجد فيها حزب منظم وراسخ غير جماعة الإخوان، بينما يحتاج الإصلاحيون المعتدلون والمدنيون مزيداً من الوقت والدعم لتنظيم أنفسهم. وفيما يخص سوريا كشف جيتس أن الولاياتالمتحدة أعدت خطة لضرب سوريا عام 2007 إثر استلامها أدلة من إسرائيل حول ضلوع النظام السوري بإنشاء مفاعل نووي، فانقسمت الإدارة حول ما يجب أن يكون رد فعلها، فالخيارات الأمريكية مقيدة بحقيقة أن الإسرائيليين أبلغوا واشنطن بشأن هذا التطور المذهل، وبالتالي أصبحت- الإدارة الأمريكية- تحت تأثير هائل، إن لم تكن في وضع كما لو أن أحداً يملي عليها ما يجب عمله ومتي. وأضاف جيتس قائلاً "كان من الواضح أن بوش عرف بطريقة ما أن المناقشات التي دارت وقتها بيني وبين وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ومستشار الأمن القومي ستيفن هادلي، تناولت ما يعرف ب"خيار توجو" إشارة إلي رئيس وزراء اليابان الذي أمر بضرب بيرل هاربر وتسبب في إلحاق هزيمة عسكرية منكرة ببلاده فقال: لن أفعل ذلك. وألقي باللوم علي بوش أيضاً، بسبب تأثير الحكومة الإسرائيلية في البيت الأبيض، وخاصة من خلال نائب الرئيس ديك تشيني، بحسب وصفه، "الذي كان محتجزاً واشنطن رهينة لصنع القرار الإسرائيلي." وعن التدخل العسكري في ليبيا، قال "شعرت بغضب شديد خلال المناقشات الداخلية حول التدخل في ليبيا لأنني كنت مضطراً للسيطرة علي أعصابي والحديث بأسلوب منمق لأن موظفي البيت الأبيض كانوا يتحدثون عن الخيارات العسكرية مع الرئيس دون إشراك وزير الدفاع!"