سقط آخر معاقل المتمردين المسلحين الواقع في المركز التاريخي القديم لمدينة حمص السورية، فبعد سلسلة من مفاوضات معقدة بين الأطراف المتحاربة، بدأت فجر السابع من مايو الجاري عملية إجلاء أكثر من 1000 شخص من المدنيين والمسلحين والمصابين، واستمر الانسحاب طوال ذلك اليوم في هدوء لم تعرفه المدينة علي مدي السنوات الثلاث الماضية، وسط تردد أنباء عن أن تأمين الإجلاء وإعطاء المنسحبين وعداً بالأمان حدث بوساطة قادة كبار من الحرس الثوري الإيراني، وهو ما اعتبره ثوار نازحون في لبنان بمثابة أمر مفجع وغصة قاتلة في الحلق.. أما الكلمات التي تم جمعها من أفواه المنسحبين فكلها صبت في اتجاه المجاعة والموت بالبطيء وتخلي الجميع عن المدينة بعدما فرض عليها النظام حصاراً بلا رحمة منذ يونيو 2012. وائل الحمصي كان أحد المقاتلين المنسحبين من المدينة، صرح لصحيفة لوموند الفرنسية اليومية قائلاً: ألم يعد لدينا المياه أو الأدوية أو الذخيرة.. كنا نأكل أوراق الشجر والحصول علي المياه كان متوقفاً علي هطول الأمطار.. من المحزن أن تري أطفالاً أصابهم الهزال ويبحثون عما يسدون به جوعهم علي أرصفة الشوارع غير مبالين بالقذائف التي تتساقط علي المدينة، لقد مات كثيرون جوعاً بالفعل وأرسلنا قائمة بأسماء الضحايا للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ولكنه لم يحرك ساكناً. في يناير من العام الجاري، وأثناء انعقاد مؤتمر جنيف.. طالب بان كي مون بسرعة إدخال المساعدات الإنسانية، واستفادت المدينة القديمة في حمص باتفاق يتم بموجبه دخول فرق إغاثة من الأممالمتحدة والهلال الأحمر السوري بمساعدات عاجلة، وإخلاء عدد من المدنيين تزامناً مع هدنة قصيرة الأمد، ولكن قوافل الأممالمتحدة تعرضت في طريق عودتها لقذف مدفعي من النظام، مما أدي لسقوط 5 قتلي وما يقارب العشرين مصاباً في صفوف المدنيين. ويؤكد أحمد القصير المتحدث باسم اللجنة العامة للثورة السورية: «لم تتوقف الكارثة عند هذا الحد، فقد نفدت كل المؤن والأغذية التي دخلت إلينا بعد يومين فقط، والمسلحون الذين تخلوا عن سلاحهم مقابل عفو عام عرضه النظام وكذلك الرجال من سن الخامسة عشرة وحتي الخامسة والخمسين الذين أرادوا الخروج من المدينة، تم القبض عليهم جميعاً.. لقد اختفي 300 رجل قبلوا بمبادرة العفو وإلقاء السلاح ولا أحد يعرف مصيرهم حتي الآن. تُعد اتفاقية الخروج من حمص هي الأولي من نوعها في اتفاقيات النظام مع مقاتلي المدن المحاصرة، وخوفاً من مصير آخرين انسحبوا بعدما تخلوا عن سلاحهم أصر مقاتلو حمص علي الانسحاب حاملين أسلحتهم الخفيفة التي تتضمن مدافع آلية وقنابل يدوية وقاذفات صواريخ، علي أن يعيدوا انتشارهم شمال المدينة في مناطق الرستن وتبليسة والدار الكبيرة وجميعها يسيطر عليها مسلحون معارضون لدمشق، وكانت المفاوضات للوصول لتلك الاتفاقية استغرقت شهرين وشارك فيها ممثلون عن جبهة النُصرة وعن نظام بشار الأسد وعسكريون إيرانيون ومسئولون من الأممالمتحدة وقعوا عليه بصفتهم شهوداً. وفي مقابل السماح بخروج مقاتلي حمص تضمن الاتفاق تعهد المعارضة بتخفيف الخناق حول مدينتي نوبول وزهرة الشيعيتين الواقعتين في قلب مدينة حلب بما يسمح بإنشاء ممر إنساني لهما، كما ضمنت المعارضة الإفراج عن بعض الرهائن التابعين للنظام، حيث تحتجزهم كتائب تابعة لتنظيم القاعدة وهو ما يعني أن ممثلين عن أيمن الظواهري ربما حضروا اتفاقية الخروج من الحمص. وطبقاً لوثيقة ممهورة بتوقيع جبهة النصرة، ونشرت صحيفة لوموند الفرنسية جزءا منها، فإن الاتفاق نص أيضاً علي إخلاء 600 مقاتل معارض بينهم 15 مصاباً، مقابل الإفراج التدريجي عن 45 أسيراً لدي المعارضة بينهم 12 طفلاً و3 نساء من الطائفة العلوية، كانوا وقعوا في الأسر في أغسطس عام 2013شمال مدينة اللاذقية أحد المعاقل الرئيسية للطائفة العلوية، علي يد ما يُعرف بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، إضافة لامرأة إيرانية و29 من جنود النظام، بينهم ضابطان أُسر أحدهما في حلب والآخر في اللاذقية، فضلاً عن مهندسين إيرانيين لا تحبذ طهران الحديث عنهما كثيراً في وسائل الإعلام. معظم المسلحين المنسحبين من حمص توجهوا إلي منطقة الدار الكبيرة الواقعة علي بعد 20 كيلو متراً من حمص والواقعة علي ضفاف نهر العاصي، ويقول أبو البراء أحد القياديين بجبهة النُصرة في الدار الكبيرة: (لقد استقبلناهم بكل ترحاب، كان بينهم عدد غير قليل من المصابين سواء من المقاتلين أو المدنيين ويلقون كل الرعايا من أطبائنا، علماً بأن البعض الآخر غادر لمناطق غير معلومة لأساب أمنية، نشعر بفخر وسعادة لا حدود لهما لقد خرج إخوتنا من حمص مرفوعي الرأس محافظين علي كرامتهم). أمر منفر من جانبها قدمت دمشق الاتفاق لوسائل الإعلام علي أنه مرحلة من مراحل المصالحة الوطنية.. ويبدو أن الرئيس بشار الأسد يريد، قبيل أسابيع من إجراء الانتحابات الرئاسية المعروف نتيجتها مسبقاً، أن يقدم للسوريين اتفاقاً حدث دون إراقة الدماء وكأنه زعيم قادر علي التحاور وإيجاد حلول دون اللجوء إلي السلاح، فمن جانبه قال التلفزيون الرسمي «إن الدولة تريد إيقاف حمام الدم» وفي مزايدة كاريكاتيرية مضحكة أعلن وزير السياحة في النظام السوري، بشير يازجي، أن حمص ستشهد هذا الصيف موسماً سياحياً مزدهراً!! وفضلاً عن فشل (مؤتمر جنيف 2) كانت فكرة ترشح بشار الأسد للرئاسة كفيلة لأن يعلن الأخضر الإبراهيمي، المبعوث الخاص من الأممالمتحدة، من أجل حل النزاع في سوريا، استقالته معتبراً أن ترشح الأسد بعد كل ما شهدته سوريا السنوات الماضية يُعد أمراً منفرا.. وأكد الإبراهيمي (منذ عدة أشهر أستيقظ من نومي وأقول لنفسي (كان ينبغي أن أستقيل بالأمس).. فيما اعتبر مسئولون أمميون أن ترشح الأسد للرئاسة بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة علي أي مفاوضات كانت تستهدف الوصول لحل سلمي بين النظام والمعارضة المسلحة. القنوات السورية المعارضة التي تبث من خارج دمشق قالت إن النظام يستهدف نصراً سياسياً باتفاقه المبرم في عاصمة الثورة.. في إشارة إلي مدينة حمص الثائرة علي حكم آل الأسد منذ يونيو 2011، هذا فضلاً عن أنه بذلك سيحاول إلهاء شعبه عن أماكن أخري يواجه فيها صعوبات ميدانية، مثل معرة النعمان تلك البلدة الاستراتيجية المفصلية الهامة بين مدينتي حلب وإدلب، وكذلك عدد من القواعد العسكرية المجهزة بأحدث الأسلحة ولكنها وبعدد كبير من طائرات الهليكوبتر لا تستطيع فك الحصار المفروض عليها من المتمردين المسلحين، وكذلك ما تعانيه قواته في مدينة درعا الواقعة علي الحدود الأردنية. حمص التي كانت مركزاً تاريخياً وسياحياً وثقافياً بمتاحفها وكنائسها القديمة وأشهرها أم الزونار، وجامع النوري الذي أُنشئ في العصر المملوكي، تم تدمير عاصمتها القديمة بالكامل بعد حصار عامين أسفر عن مقتل 22 ألف شخص. الصور التي تناقلتها وكالات الأنباء لمشهد الانسحاب أظهرت حافلة خضراء يستقلها المسلحون المنسحبون من المدينة، وهي تتحرك وسط أنقاض ودمار نار أكلت الحجر والبشر. آخر معاقل المعارضة المسلحة في حمص هو حي الواعر الواقع علي الحدود الجنوبية للمدينة ولا يشكل أي أهمية تاريخية أو استراتيجية ومن المتوقع أن يشهد انسحاباً مماثلاً لمسلحيه الذين بدأوا بالفعل في لملمة معداتهم استعداداً للرحيل، لذا فمن المتوقع أن يعلن النظام سيطرته الكاملة علي حمص قريباً.. حمص ثالث أكبر مدينة في البلاد وعاصمتها الاقتصادية والصناعية والتي لم يتبق منها الشيء الكثير.