٫ انتهي منذ أيام قليلة عرض الموسم الأول من المسلسل التليفزيوني الأمريكي المخبر الفذ أو TRUE DETICTIVE الذي شارك في بطولته كل من ماثيو ماكونهي، وودي هارليسون وهما من حاملي الأوسكار! وقد تابع حلقات الموسم الأول علي شاشة العرض التليفزيوني ما يقرب من ثلاثمائة مليون شخص، بالإضافة لعدد مشابه قاموا بتحميله بعد العرض من خلال مواقع متعددة من الإنترنت! وقد منح موقعIMDB وهو أهم موقع يقدم معلومات عن أفلام السينما ومسلسلات التليفزيون، تقييما بلغ تسعة ونصفا من عشرة!! مما يعني أنه عمل فوق الممتاز، وهو كذلك فعلا، مخرج المسلسل هو مدير التصوير الشاب كاري فوكوناجا، وهو أمريكي من أصل ياباني، أما كاتب السيناريو فهو "نيك بيزالاتو" وهو كاتب قصة قصيرة وروائي أيضا! اللافت للنظر أن الموسم الأول لاتزيد حلقاته عن ثمان، مدة عرض كل منها ساعة! وهو ما يجعلنا نتساءل، لماذا لانفكر في تقليد الأمريكان ونعمل مسلسلات قليلة الحلقات، بدلا من أن نقلد الأتراك ونقدم مسلسلات طويلة جدا، ومملة جدا! يمكن تصنيف "المخبر الفذ" ضمن قائمة مسلسلات الجريمة والغموض والتشويق، وكل حلقة تعتبر فيلما سينمائيا متكاملا، تبلغ الصورة درجة عالية ملحوظة الجودة من الإبداع البصري، وتبدو الحكاية، وكأنها تدور حول البحث عن مجرم خطير، ولكنها ليست كذلك علي أي حال، فكون أن العمل الفني، يعتمد علي إطار شائع لجذب المتفرج، فهذا لايعني أنه يشبه غيره من نفس الإطار، بل بالتأكيد إنه لايشبه غيره مطلقا! رغم أنه أيضا يعتمد علي تعاون اثنين من ضباط البحث الجنائي يتتبعان جريمة قتل، يقف كل منهما علي نقيض الآخر في السلوك الشخصي وأسلوب العمل، ومع ذلك فتأكد أن مايقدمه المسلسل يختلف تماما عن كل توقعاتك، فأنت في مواجهة عمل فريد إن لم يكن فذا فعلا! يقال إن السيناريست الجيد، هو الذي يستطيع أن يختار نقطة انطلاق مثيرة، يضمن بها، جذب المشاهد وتحفيزه علي المتابعة، ولكن "نيك بيزالاتو" لم يكتف ببراعة الاستهلال، ولكنه تعمد أن يسحب مشاهديه، ويقدم لهم مع كل حلقة جرعة من الإثارة والتشويق، تدفعهم إلي انتظار الحلقة التالية بكل شغف وقلة صبر، وربما تتجلي موهبته وعبقريته، في قدرته علي رسم شخصياته بعناية، والغوص في ثنايا نفوسهم، التي تحمل الكثير من المتناقضات المدهشة! "راست" أو ماثيو ماكونهي، يبدو غريب الأطوار لايتوقف عن ترديد آراء تبدو غريبة وغير منطقية لا يستسيغها زميله مارتي "وودي هارليسون، أما الأخير فهو شرطي ماهر ولكنه تقليدي، نقطة ضعفه، ميله الشديد للنساء، مما يجعل كيانه الأسري قابلا للانهيار بين لحظة وأخري رغم حبه لزوجته! راست يعيش وحيدا، بلا زوجة ولا أبناء بعد أن مر بأزمة تحولت إلي عقدة بحياته بعد أن فقد طفلته الوحيدة في حادث، وبلغت أزمته النفسية حداً جعل استمرار حياته الزوجية غير محتملة، بعدها تفرغ لتأمل الحياة، وسلوكيات الناس، دون أن يقربه هذا من إحساسه بالاحتياج بالإيمان بوجود الله، فهو لم يذهب لكنيسة إلا بصفته محققا، وهو ما يزيد من نفور زميله، من تصرفاته، ولكن الغريب والمضحك أن مارتي الملتزم دينيا، بالمنطق التقليدي، لايتوقف عن ارتكاب الخطايا ويغرق نفسه في الملذات، بينما راست ملتزم أخلاقيا ولديه إحساس كبير بالمسئولية! تبدأ نقطة الانطلاق، من العثور علي جسد فتاة عارية في الأحراش، وقد تم توثيقها في جذع شجرة، بعد الاعتداء عليها جنسيا وتشويه جسدها برسومات غريبة، وكأنها رسالة موجهة من القاتل، للآخرين، ويبدأ الثنائي راست ومارتي في تتبع الحكاية، التي يعتبرها مارتي حادثة قتل عادية، بينما تفرز غدة الخطر لدي راست إشارات متعددة، تدفعه للاعتقاد أن وراء تلك الجريمة البشعة، حكايات يصعب إغفالها، مما يدفعه في البحث في قضايا أخري تم إغلاقها قبل الوصول للفاعل، ليكتشف اختفاء مجموعة من الأطفال في أزمنة مختلفة، لم يعرف مصيرهم، ويزعج هذا الأمر رؤساء راست في إدارة المباحث، لأنها تفتح ملفات سابقة وترمي بظلال إهمال وتآمر علي الزملاء، فيناصبونه العداء ويتشككون في نواياه، ولكنه غير آبه يستمر في عملية البحث، لتقوده وتقودنا معه، إلي أن بعض أثرياء المنطقة "أريزونا" أنشأوا مدرسة دينية لتعليم الأطفال، وأن بعض تلاميذ المدرسة اختفوا في ظروف غامضة، وسوف نكتشف أن فكرة المتاجرة بالأديان واستغلال هوس بعض الناس بالدين تتشابه في جميع المجتمعات وتؤدي غالبا إلي نوع من التطرف ممزوجا بالعنف الوحشي! يصبح راست "ماثيو ماكونهي" متهما بإثارة المشاكل والتطاول علي المسئولين وإزعاجهم، فيقرر الاستقالة ولكنه يستمر في تعقب الجريمة لمعرفة ملابساتها، مما يؤدي إلي اتهامه بالقتل نظرا لغرابة إصراره، ولكن زميله مارتي يشهد له بالالتزام في العمل والإخلاص والتفاني رغم شدة الاختلاف بينهما، التي وصلت إلي درجة الاقتتال! ويلجأ راست لزميله ليساعده في الاستمرار في تحرياته رغم أنه أصبح خارج مهنته، فالبحث عن الحقيقة هو غايته، وهدفه في الحياة ويسانده مارتي بعد أن أدرك أن هناك قاتلا أو عدة قتلة آثمين، وراء حوادث اختفاء الأطفال ثم قتلهم بوحشية! المسلسل لايسعي فقط إلي الإثارة، أو فكرة البحث عن القاتل ولكنه ينتقد حالة الفساد التي تستشري بين رجال الشرطة والبحث الجنائي، وعلاقتهم المريبة أحيانا بكبار رجال السياسة والأعمال مما يعرقل سير العدالة، هذا بالإضافة للكشف عن وسائل القتل المختلفة، وسلوكيات القاتل ودوافعه الجنسية والدينية أحيانا! مسلسل المخبر الفذ من التحف الفنية النادرة، التي تستشعرها بداية من موسيقي التترات التي يقدمها فريق هاندسوم فاميلي، إلي مدير التصوير وهو نفسه المخرج كاري فوكوناجا، ورسم الشخصيات والتنافس الشديد بينها الذي يتحول مع مرور الوقت إلي علاقة تفوق الصداقة حيث يصبح كل من النقيضين علي استعداد بالتضحية بحياته من أجل الآخر، وقد تستبد بك الدهشة من حالة القلق التي وصل إليها ماثيو ماكونهي، في عامة الأخير، بعد سنوات قضاهافي أداء أدوار خفيفة لم تكن أمينة في الكشف عن حقيقة موهبته، وقدراته التي أعلن عنها في فيلم نادي مشتري دالاس الذي حصل عنه علي الأوسكار، أم من خلال 8 حلقات من مسلسل المخبر الفذ، أما زميله الممثل "وودي هارليسون" فهو من عتاة الأداء التمثيلي وقد حصل علي ترشيح للأوسكار أكثر من مرة عن أفلام "العالم ضد لاري فلينت" للمخرج ميلوش فورمان، وقد ولدوا ليقتلوا للمخرج أوليفر ستون ، وقدم عشرات من الأدوار المميزة وغيرها من الأدوار البسيطة، ولكنها جميعا تؤكد أنه ممثل لايستهان بموهبته وقدراته الفذة! بعد نجاح الموسم الأول، من مسلسل TRUE DETICTIVE قد تضطر الشركة المنتجة إلي تقديم موسم آخر، ولكنه لن يكون من بطولة ماثيو ماكونهي وزميلة وودي هارليسون حيث انتهت أدوراهما، ولن يقدما أروع مما قدما في الموسم الأول، هنا سوف تصبح المهمة شاقة بل عسيرة ومستحيلة أمام كاتب السيناريو، ليتمكن من تجاوز نجاح الموسم الأول، ولكن النجاح يؤدي إلي تزايد الطلب علي الُمنتج الفني ، وعلي المؤلف والمخرج أن يقبلا التحدي، لأن عجلة الإنتاج الجهنمية لاتتوقف الجمهور في شغف لمتابعة المزيد من هذا السحر الفني الذي تابعة في الموسم الأول!