عبدالناصر وأم كلثوم.. صداقة قامت على الاحترام المتبادل لصالح الوطن علي الرغم من مرور سنوات كثيرة علي رحيل كوكب الشرق »أم كلثوم« فإن الكثير من جوانب حياتها الخاصة أو الشخصية، لايزال محاطا بالغموض والكتمان.. فالباحثون والمصريون علي وجه الخصوص يمرون مرورا سريعا علي هذه الحياة، وكأن أم كلثوم لايجوز الاقتراب من حياتها الخاصة إلا بورع واحترام.. فهي رمز.. لا إنسان يمكن معالجة كل ما يتصل به.. بل هي سر من الظلم جعل الشيفرة الخاصة به مباحة أمام الجمهور العريض، لأن في ذلك ما يسيء إلي ذكري الفنانة الكبيرة الراحلة.. وحتي عندما يكشف الباحث، جوانب من علاقتها العاطفية مع فلان (ولنفترض أنه الموسيقار محمود الشريف الذي قيل إنها هي التي لفتت نظره إلي معاناتها وحاجتها إليه أو إلي رجل ليكون إلي قربها، أو شريف صبري باشا قريب الأسرة المالكة (خال الملك فاروق) الذي قيل إنه شغف بها حبا وعرض عليها الزواج)، فإن القارئ يشعر أن البحث في هذه الجوانب لم يستوف بما فيه الكفاية لا لشح المعلومات وحسب، أو لعدم دقة ما لدي الباحث منها، بل لسبب آخر هو الخوف من الخوض في أمر قد يسبب له المتاعب، عندما تتعثر الخطوات ويتلعثم القلم. ويبدو أن تعامل الباحثين مع سيرة أم كلثوم مثل هذا التعامل المبجل وبخاصة بعد أن تكرست كصاحبة مقام رفيع في عالم الغناء، وتحولت إلي رمز وقيمة عالية، ظهر عند الجميع ميل إلي إحاطة حياتها الخاصة بالسرية والاحترام.. فها هو محمد عبدالوهاب، شريكها في المجد ومنافسها فيه، لا يتردد في القول إن أم كلثوم صانت نفسها علي الدوام ولم تقع في الابتذال، مع أنه كان يعلم حق العلم أنها أخذت من دنياها بنصيب، وأنها كانت بشرا كسائر البشر، وأنه كانت لها حياتها الخاصة الدافئة بالمشاعر، وبالعشاق الذين كانوا يتهافتون عليها، والذين كان لبعضهم حظوة كبيرة عندها، ومنهم علي سبيل المثال، شريف صبري الذي قيل إنه كاد يتزوجها لولا تدخل القصر والحئول بينه وبين ما نوي.. ولاشك أن الباشا لم يكن ليفكر بما فكر فيه لو لم تكن هناك حكاية حب أو إعجاب شديد نشأت بينه وبين تلك »الحماقة الموصلية« الساحرة كما كان ينعتها زكي مبارك. علاقة من نوع خاص لكن علاقة أم كلثوم بالرئيس جمال عبد الناصر لم تندرج تحت هذا النوع من العلاقات الدافئة بالمشاعر.. لكنها علاقة قامت علي الاحترام المتبادل، وكذلك علي المصلحة.. فقد تمكنت أم كلثوم من إبعاد الصحافة والإعلام عن حياتها الخاصة نظرا لقربها من ذوي النفوذ في السلطة وفي الإعلام.. كذلك مكنت هذه العلاقة الوطيدة بين »الفنانة والرئيس« أن تفرض سطوتها علي العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ.. ففي إحدي حفلات عيد ثورة 52، غنت أم كلثوم لساعات كثيرة، جعلت عبد الحليم حافظ يغتاظ ويقول: مش عارف إن كان غنائي بعد السيدة أم كلثوم شرفا لي أم مقلبا منها، وهو ما ضايق أم كلثوم كثيرا وجعلها تطلب من جمال عبدالناصر أن تغني وحدها في عيد الثورة.. وحسما للنزاع، كان القرار أن تنفرد هي بحفلة 23 يوليو، ويقام حفل غنائي آخر يوم 26 يوليو بمناسبة رحيل الملك يغني فيه عبدالحليم حافظ في الإسكندرية. حكاية أول لقاء لقد ارتبطت كوكب الشرق أم كلثوم بعلاقة قوية بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، مما أكسبها شأنا قويا لدي أعضاء مجلس قيادة الثورة.. ولكن قبل تلك العلاقة الوثيقة، جاءت لحظات التعارف »جميلة ولا تنسي« كما وصفتها. فقد نشرت مجلة »الهلال« في شهر أكتوبر 1971 مقالا صحفيا كتبته سيدة الغناء العربي أم كلثوم بعنوان: »كيف عرفت عبدالناصر«؟ وروت فيه لحظات اللقاء الأولي بمناسبة مرور الذكري الأولي لوفاته.قالت كوكب الشرق إن أول لقاء كان عام 1948، وتحديدا وقت »مأساة فلسطين - بحسب وصفها -« كنت أتتبع أبناء إخوتي وأبنائي أبطال الفالوجا يوما بيوم، وبعد عودتهم استقبلتهم بدموع المصرية الفخورة بأبناء مصر، وجلست بينهم وأنا أشعر أنهم أسرتي، صميم أسرتي، إخوتي، وأبنائي.. وهناك قدم لي المرحوم القائد السيد طه ضباطه وجنوده، وحدثني عن أصحاب البطولات الكبيرة منهم، وكان في مقدمة أصحاب هذه البطولات الضابط الشاب جمال عبد الناصر«. أم كلثوم صافحت الضابط الشاب وأحست في عينيه إخلاصا وطنيا لا حدود له، ولم تكن تعلم وقتها أنه سيلعب دورا هائلا في تاريخ مصر بعد أربع سنوات. ثم جاء اللقاء الثاني، الذي قالت عنه: »كان يوما أجمل من الأحلام«، حيث أعلن وقتها أنور السادات بيان ثورة 23يوليو 1952. وتطرقت أم كلثوم في حديثها إلي أغانيها للزعيم جمال عبد الناصر وللثورة بقولها: »هناك أنشودتان من بين كل الأناشيد التي غنيتها للثورة أحسست بانفعال أعمق كلما ذكرتهما، إحداهما »يا جمال يا مثال الوطنية« التي غنيتها له بعد حادث المنشية بالإسكندرية، والثانية أغنية »قم« التي غنيتها بعد النكسة. منع أغانيها من الإذاعة وبعد قيام ثورة يوليو 1952، أصدر الضابط المشرف علي الإذاعة قرارا فرديا بمنع إذاعة أغاني أم كلثوم من الإذاعة باعتبارها »مطربة العهد البائد«، فقد منحها الملك فاروق واحدا من أرفع النياشين وهو نيشان الكمال عام 1944.. وعلي الرغم من أن أم كلثوم غنت للجيش المحاصر في الفالوجا أثناء حرب فلسطين أغنية »غلبت أصالح في روحي«، ذلك الجيش الذي كان بين أفراده جمال عبدالناصر، وأنور السادات، إلا أنه تم اعتبارها ضد الثورة بسبب حصولها علي نيشان الكمال وقلادة صاحبة العصمة وغنائها للملك أكثر من مرة منها أغنية عام 1932 في حضور الملك فؤاد: أفديه إن حفظ الهوي أو ضيعا ملك الفؤاد فما عسي أن أصنعا وصل الموضوع إلي جمال عبدالناصر شخصيا، الذي ألغي هذا القرار، ويذكر أن الذي أوصل إليه الموضوع هو مصطفي أمين في سبتمبر 2591.. وعلي إثر نزاع علي منصب نقيب الموسيقيين يتم إلغاء انتخابات النقابة، ويتم تعيين محمد عبدالوهاب نقيبا للموسيقيين.. وعلي إثر هذا الموقف وما تردد عن مساندة بعض الضباط الأحرار لعبد الوهاب، تبلغ أم كلثوم قرار اعتزالها إلي الصاغ أحمد شفيق أبو عوف الذي نقله إلي مجلس قيادة الثورة فذهب إليها وفد مكون من جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وصلاح سالم لإقناعها بالعدول عن رأيها.. لقد أثرت هذه اللحظة فيها كثيرا جدا كما ظهر فيما بعد من أغان ومواقف، وحملت إعجابا جارفا بعبدالناصر.. وتجلي ذلك في أغان مثل: »بعد الصبر ما طال نهض الشرق وقال، حققنا الآمال برياستك يا جمال«.. و»يا جمال يا مثال الوطنية.. أجمل أعيادنا الوطنية برياستك للجمهورية«.. وتم تدارك كل ماحدث سابقا في حق أم كلثوم بعد أن هدأت الأمور.. والثابت أن الثورة.. بعد ذلك .. أعطتها دافعا معنويا قويا، حتي أنها رأست اللجنة التي أشرفت علي اختيار السلام الوطني الجديد للجمهورية، حيث أيدت أم كلثوم النشيد الوطني الذي أعده عبدالوهاب، إلا أن الدكتور حسين فوزي أثبت أن النشيد منقول من أسطوانة للموسيقار التشكيي بيللا برنوك بعد إدخال عدة تعديلات عليه.. وفي 91 ديسمبر 2591 تم تكوين اللجنة الموسيقية العليا التي ضمت أم كلثوم وعبدالوهاب ورياض السنباطي.. وفي عام 5591 تلقت خطاب شكر من الرئيس عبدالناصر لتبرعها بألف جنيه ضمن حملة التبرعات لتسليح الجيش، ومنحها الميدالية الذهبية لأسبوع التسليح.. وفي عام 6591 غنت أم كلثوم لتأميم قناة السويس أغنيتها الشهيرة »ما أحلاك يا مصري«.. وبعد العدوان الثلاثي غنت »والله زمان يا سلاحي« التي تحولت إلي نشيد قومي. وكان لهذه المواقف تأثير كبير علي أم كلثوم، حيث جعلها تتجه بفنها إلي تأييد الثورة والوقوف إلي جوارها. وكان لتحرك أم كلثوم الداعم للثورة بقيادة عبدالناصر رد فعل كبير من عبدالناصر فقد أمر بتخصيص جواز سفر دبلوماسي برقم 4351 لأم كلثوم، وأنشأ إذاعة خاصة تحمل اسمها ظلت تذيع أغانيها بين الخامسة والعاشرة مساء بين أغان أخري للعديد من المطربين والمطربات. وفي عام 7591 دعيت أم كلثوم لحضور افتتاح مجلس الأمة المصري في دورته الجديدة كإحدي الشخصيات القومية الكبري.. كما حصلت علي وسام الاستحقاق في السنة نفسها من الدرجة الأولي تقديرا لفنها.. وفي أعقاب الهزيمة المروعة في 7691 كادت تتفرغ لمعركة أمتها ووطنها من أجل هدف وحيد وهو ضرورة إزالة آثار العدوان.. لذلك غنت لمصلحة المجهود الحربي في عشرات الحفلات داخل مصر وخارجها، حيث غنت علي مسرح »الأولمبيا« الشهير في باريس وأرسل لها ديجول تحيته الشهيرة: »لقد لمست بصوتك أحاسيس قلبي وقلوب الفرنسيين جميعا«.