أم كلثوم هي الفنانة الوحيدة التي اخترقت الحاجز الذي كان عبدالناصر يخفي وراءه حياته الخاصة واسرته، فكانت من الشخصيات القليلة التي يسمح لها بدخول منزل الزعيم الخالد بدون ميعاد مسبق، وكان هذا الاستثناء مقصورا علي أعضاء مجلس قيادة الثورة، وامتدت أواصر الصداقة الحميمة بين كوكب الشرق وزوجة الرئيس الراحل السيدة تحية كاظم، فكانت بمثابة أحد أفراد أسرة عبدالناصر!وليس أدل علي عمق هذه العلاقة وخصوصيتها من دعوة (أم كلثوم) لحضور الاحتفال السنوي الوحيد الذي كان يقام في منزل الزعيم وهو الاحتفال بعيد ميلاده، ولم تبدأ أسرة عبدالناصر هذا التقليد إلا بعد قيام ثورة يوليو بعامين، وفي هذا اليوم كان الحضور يقتصر علي أفراد أسرة الرئيس وأم كلثوم، وكانت »التورتة« تزود بشمعة واحدة، ويخرج الرئيس عادة من مكتبه في التاسعة مساء ليطفيء الشمعة ويقطع التورتة! في بيت الرئيس ولأن أم كلثوم كانت تتردد علي بيت عبد الناصر بسبب صداقتها الحميمة بزوجته (تحية) كان الرئيس يراها ويجلس إليها بعض الوقت، ويسألها عن أخبارها، وكانت أم كلثوم ذات حديث شيق، واشتهرت في جلساتها الخاصة بروح المرح والدعابة! ولكن هذه العلاقة الخاصة بين أم كلثوم وعبدالناصر وزوجته لم تكن تفرض علي فنانة الشعب أعباء أو واحبات معينة، فالسيدة أم كلثوم لم تكن تغني في المناسبات الخاصة التي تدعي إليها إلا كصديقة للأسرة، ولكنها غنت بمحض إرادتها في فرح (هدي) ابنة الرئيس، وقامت العلاقة بين عبدالناصر وأم كلثوم علي أسس الاحترام والتقدير المتبادل.. عبدالناصر كان يحب طبعا صوت (الست) ويحتفظ داخل حجرة نومه بشرائط مسجلة لحفلاتها، وأم كلثوم كانت تري أن عبدالناصر هو الذي أنصف الطوائف المظلومة، ورفع من قيمة الفنان، وخلصنا من ذل العبودية! الانتماء لطبقة واحدة ولقد ربط الزميلان الصحفيان الكبيران الأستاذان حسام عبدربه، ومي عزام في كتابهما الرائع (نساء في حياة عبدالناصر) والذي نفدت طبعاته فور صدورها، ربطا جميلا بين حياة كوكب الشرق والزعيم الخالد، فكلاهما ينتمي إلي الطبقة الوسطي الدنيا.. كان ذلك عاملا مهما في التقريب بينهما، إذ تعود جذور أم كلثوم إلي أسرة فقيرة للغاية في قرية (طماي الزهايرة) بمركز السنبلاوين في محافظة الدقهلية، وكان مرتب الأب من عمله كإمام مسجد في القرية لايكفي للإنفاق علي أسرته، ولهذا كان يقرأ القرآن الكريم في الموالد، وبدأت (أم كلثوم) حياتها من تحت الصفر، واستطاعت أن تصل إلي قمة لم يصل إليها أحد، وفيما بين القمة والقاع واجهت أم كلثوم الفقر والجوع.. والحرمان والشقاء حتي بلغت هدفها! وبالقطع فإن عبدالناصر الذي نشأ أيضا في عائلة من الطبقة المتوسطة الدنيا كان جديرا بأن يمنح أم كلثوم كل التقدير لأسباب كثيرة يأتي علي رأسها الانتماء إلي طبقة اجتماعية واحدة! في لقاء السحاب وطوال رحلة الود الجميلة استطاع عبدالناصر أن يجمع كلا من عبد الوهاب وأم كلثوم في عمل فني مشترك لأول مرة، وكان رأيه أن فن عبدالوهاب وأم كلثوم يجمع العرب من المحيط إلي الخليج، وكان نادي الضباط قد أقام حفلة ساهرة في احتفال 32 يوليو سنة 3691 حضرها الرئيس عبدالناصر، وشارك فيها كل من أم كلثوم وعبدالوهاب، وفي الاستراحة دعاهما الرئيس إلي تناول العشاء علي مائدته، وقال لهما: أين الأغنية التي نقرأ في الصحف أن أم كلثوم ستغنيها ويلحنها عبدالوهاب!.. ألم يحن الوقت بعد لكي تتحول الأغنية من كلام تكتبه الصحف إلي كلام يغنيه الناس؟.. ويروي عبدالوهاب أن أم كلثوم رحبت وقالت : لامانع، وبالتالي رحب موسيقار الأجيال وتمني ذلك، وأثمر هذا الحديث أغنية (إنت عمري) التي كانت أول لقاء فني بين العملاقين، وبعد نجاح الأغنية توالت ألحان عبدالوهاب لصوت أم كلثوم، وغنت له عشر أغنيات بعد ذلك في فترة لم تتجاوز تسع سنوات! المنافسة بين العملاقين ونجح عبدالناصر فيما فشل فيه كثيرون، فلم يكن أيهما يثق في الآخر بما يكفي بعد لإنتاج عمل غنائي مشترك، والتفسير الوحيد أن عبدالوهاب في مرحلته الفنية الأولي كان مطربا بالدرجة الأولي، ثم ملحنا، أي أنه كان يحتجز لنفسه أجمل ألحانه، وكان طبيعيا أن يولد شعور بالمنافسة بين عبدالوهاب وأم كلثوم، ثم تغير الحال بعد أن تراجعت قدرة عبد الوهاب كمطرب إلي الدرجة الثانية، وحلت محلها مقدرته كملحن، ولذلك تحول الشعور بالمنافسة مع أم كلثوم إلي شعور بالتكامل، وكان لهما عمل مشترك عبارة عن مناجاة غنائية بين فتي وفتاة أثناء وجودهما في منزل صديق عام 7291، ولكن فشلت محاولة إخراج العمل الفني إلي النور، وتكرر هذا الموقف عام 4491 عندما غنت أم كلثوم قصيدة من تلحين عبدالوهاب ومن كلمات كامل الشناوي، ولكن لم يظهر أيضا العمل الفني للجمهور مثل سابقه، إلا أنهما نجحا في لقاء السحاب في (إنت عمري) بوساطة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والذي حرص قبل هذا العمل الفني الرفيع أن يكرمهما تقديرا لهما حيث منحهما وسام الاستحقاق عام 0691، وإن انفردت كوكب الشرق أم كلثوم بالحصول علي ميدالية الجيش بقرار من الزعيم الراحل عام 9591.