كان العقل البشري في طفولته يربط بين الظواهر التي لايمكنه تفسيرها وبين عوامل غير منظورة، وقوي خارقة، يعتقد أنها مسئولة عن هذه الظواهر. وهذه المرحلة من عمر البشرية تسمي المرحلة السحرية. ولو نظرنا إلي الأساطير القديمة لوجدنا أن السحر يقوم فيها بدور رئيسي، ففي أسطورة إيزيس وأوزيريس مثلاً توصف البطلة بأنها ساحرة، وفي أسطورة ميديا اليونانية توصف البطلة بأنها ساحرة، ولو دققنا فيما تقوم به إيزيس أو ميديا أوغيرهما من ساحرات الأساطير لوجدنا أنهن يقمن بأفعال بشرية يفسر العلم أكثرها الآن، إلا أنها في عصرها لم تكن لها تفسيرات عقلية معروفة لذلك لجأ الناس للتفسير السحري. وفي المجتمعات البدائية هناك منصب مهم جداً في القبائل هو منصب الساحر الذي يفسر لأبناء القبيلة الظواهر المختلفة تفسيراً يقوم علي الربط بين الأحداث وبين القوي غير المنظورة، القادرة علي أن تفعل أشياء خارقة للعادة من وجهة نظر الرجل البدائي. في هذه القبائل هناك تفسير سحري مثلاً لصوت الرعد، وضوء البرق، ونزول المطر، والصواعق، والإصابة بالأمراض، والشفاء منها.... إلخ. وفي العصر الحديث رأينا بعض فرق الكرة الأفريقية تأتي بأعمال سحرية تعتقد أنها تستطيع أن تمنع الكرة من دخول مرماهم، أو تساعدهم في تحقيق النصر، مما يدل علي أن التفكير السحري لايزال مستمراً في بعض المجتمعات حتي الآن. والتفكير السحري عكس التفكير العقلي، إذ يعتمد التفكير العقلي علي ربط الأشياء بمسبباتها المباشرة، دون اللجوء لفكرة القوي غير المنظورة، فإذا انهزمت القبيلة في الحرب مثلاً فإنه لايرجع هذا لغضب الآلهة لأن القبيلة لم تقدم لها القرابين الكافية، بل يبحث في التسليح والتدريب وكفاءة العنصر البشري وخطة القتال ليتعرف علي أسباب الهزيمة. وإذا انهزم فريق الكرة فإنه لايعيد ذلك للسحر، بل يبحث في كفاءة اللاعبين، وتدريب حارس المرمي وخط الدفاع وخطة اللعب، وهكذا. باختصار التفكير العقلي يربط بين النتائج والأسباب الحقيقية وليس بين النتائج والقوي غير المنظورة. وقد اعترف الإسلام بالسحر، ويعرِّف معجم القرآن الكريم السحر بأنه » قول أو فعل يترتب عليه أمر خارق للعادة، ويعتمد علي وسائل من الرّقَي ( جمع رُقية ) والعزائم وما أشبهها » ويقول أيضاً : سَحَرَه : صرفه عن وجهه وخدعه. والتعريفان السابقان لايحتاجان لشرح، إذ يوضحان أن السحر تترتب عليه نتائج خارقة للعادة، وأن فيه خداعاً. لكن كما تحدث القرآن عن السحر والسحرة، تحدث أيضاً عن التفكير العقلي، وسأل كثيراً : أفلا يعقلون ؟ أفلا يتدبرون ؟ وأمرنا بالنظر في ملكوت الله، والنظر هنا بمعني التفكير العقلي والفهم، وتحدث عن أولي الألباب، وعن الذين يعلمون والذين لايعلمون، فهل يمكن في ضوء الفهم الصحيح للإسلام أن نترك التفكير العقلي ونعتمد علي التفكير السحري ؟ إن اللجوء للتفسير السحري في عصرنا معناه - غالباً - الفشل في التفسير العقلي للأحداث والظواهر، أومحاولة تبرير الفشل بأسباب غير منظورة، وقوي خارقة، بحيث لانبدو مقصرين. ومن الغريب حقاً أن نري رجالاً معاصرين، علي قدر من العلم والثقافة، ويشغلون مراكز اجتماعية مرموقة، يفسرون فشلهم بأنه نتيجة الحسد والقوي الشريرة غير المنظورة. إن اعتراف القرآن بالسحر لايعني أن نفسر كل شيئ بأنه نتيجة للسحر الأسود، ولو أن السحر كان فعالاً بصورة أكيدة لاستغنت الدول عن الجيوش والأسلحة والقنابل والحروب، واعتمدت علي السحر لهزيمة الأعداء. ولكنا مثلاً في حربنا ضد إسرائيل استعنا بألف ساحر بدلاً من تجنيد مئات الألوف من الشباب، ولواجهنا الإرهاب بالسحر بدلاً من الخسائر المادية والبشرية التي نتكبدها. ولاستبدلنا جهاز المخابرات بجهاز السحرة الفتاك. واستعضنا عن خطط التنمية، بالسحر لزيادة الدخل القومي. إن الطريق للمستقبل هو طريق التفكير العقلي، أما التفكير السحري فهو الطريق للتخلف، وعلينا أن نختار.