لا أحد يستطيع ألا يغضب، لكن ماذا بعد الغضب؟.. بل هل هذا هو الوقت المناسب للانغماس في غضب قد يُسلم من يغرق فيه إلي مشاعر إحباط ويأس، وربما لمشاعر انتقامية بغيضة؟. ثم هل لدينا ترف تبادل العتاب، وتبادل الاتهامات؟ لا هذا جائز، ولا ذاك أمر مقبول، فاللحظة بكل ثقلها، وما يحيط بها من ألم، لا تحتمل إلا العودة السريعة للعقل، والتعامل مع الحادث الإرهابي البغيض بحجمه، وما تشير إليه دِلالاته، وما يحمله من مخاطر، وما يجب الحذر من توابع ربما تفوق ما خلَّفه من آثار مباشرة. قد يري البعض فيما ذهبت إليه، دعوة فوق الطاقة، علي الأقل أهالي الضحايا وأحباؤهم، وإلي حد بعيد فإن ذلك صحيح، فهؤلاء مستثنون من دعوتي، ولهم كل العذر، لكنني أدعو مَن دونهم إلي تأجيل الغضب، والعتب، والتفكير الجاد في كل العوامل التي تسببت في وقوع المأساة، وهل كان يمكن منع وقوعها؟ ثم وهذا هو الأهم كيف يتم صياغة استراتيچية وقائية شاملة تتجاوز الشق الأمني، ويكون من شأنها التصدي الحقيقي للإرهاب، لا استهداف بعض الإرهابيين؟.. وعندما نتحدث عن استراتيچية، فإنه لا مكان للحلول الجزئية أو المسكنات، أو التغاضي عن أحد مكامن الخطر، ثم إن التحرك في خطوط متوازية يصبح منهجاً لا يحتمل التأجيل تحت أي ذريعة. البُعد الأمني عنصر مهم في المواجهة، لكنه لا يكفي وحده، بل إن الواقع يُثبت كل يوم فشل رؤية من يتصورون أنه بالأمن فقط نستطيع محاصرة الإرهاب، ومن ثم استهداف القضاء عليه، فقد ينجح أصحاب هذا الفهم في قتل أو القبض علي عدد من الإرهابيين، مهما بلغ حجمهم فإن ذلك لا يعني تجفيف منابع الإرهاب، وهي المهمة الأخطر. المطلوب استراتيچية يكون للأمن فيها دوره الذي لا يلغي الأبعاد الأخري؛ الفكرية، الثقافية، الدعوية، الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، الإعلامية... إلخ. ولا يقنعني أي شخص بأن هذه الرؤية موجودة، وأنها قيد التنفيذ، أو أنها في إحدي مراحلها، وعلينا أن نتمسك بالصبر حتي ننعم بثمارها. إن ما أذهب إليه، لا يعكس غضباً حذرت منه لكنها ساعة الحقيقة التي لا يجب علينا إلا أن نتحلي بالشجاعة ومواجهة الذات بصدق، حتي ننجو من غول الإرهاب والتطرف المتربص بنا، والذي يملك للأسف الشديد رؤيته الاستراتيچية، وتكتيكاته في الحركة، بينما يتم الاكتفاء بملاحقته من موقع رد الفعل في أحيان كثيرة، وقد يكون ذلك هو الداعي المشروع للغضب.! خذ مثلاً حكاية تجديد الخطاب الديني أو الإعلامي أو السياسي، أو أي خطاب شئت، ألا تمثل عملية التجديد تلك، أحد البنود الرئيسية في بناء استراتيچية لمواجهة الإرهاب والتصدي للتطرف الفكري الذي يمثل الحلقة الأخطر، ونبعاً لا ينضب تنهل منه تنظيمات غايتها السامية، إلغاء الآخر بالقتل، وفي أحسن الأحوال، الإخضاع التام؟. وحتي في الأمن الذي نسلم بضرورته كأحد جوانب الاستراتيچية الشاملة التي ندعو لامتلاكها دون تقاعس أو إبطاء، إن المشكلة ليست في تغيير بعض الآليات الأمنية، أو الأساليب المتبعة بقدر ما يجب أن يطال العقلية والمنهج الأمني، ومنح أفضلية للتحرك الاستباقي، الذي من شأنه قطع الطريق مبكرا علي الإرهابيين، وليس ملاحقتهم بعد إتمام عملياتهم. والأهم من كل ما سبق أن تكون تلك الاستراتيچية ذاتها جزءاً من رؤية أعم وأشمل لمشروع قومي يكون الاقتصاد فيه ذا بُعد اجتماعي تعود ثماره علي الأكثر فقراً، ويوقف انحدار الطبقة الوسطي لمستنقع الضياع، وأن يكون التعليم في قلب هذا المشروع، لأنه القاطرة التي تقودنا لمستقبل أرحب بقدر تحديثه ومواكبته لمتطلبات المستقبل. بعد ذلك فقط، من حقنا أن نغضب بأثرٍ رجعي كما نشاء.