لست من الفرحين ولا المهللين لقرارات تعويم الجنيه وإشعال أسعار البنزين والسولار والمازوت وأنابيب البوتاجاز، ولا ممن يصفون ما جري بالقرارات الجريئة، فالجرأة في الحق غير الجرأة علي الحق، وقد بدت القرارات الصاعقة كجرأة علي الحق وجرأة علي الشعب، وبدت كإعلان حرب اجتماعية علي غالبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطي، أضافت إلي حياتهم اليومية غما فوق الهم والنكد، وجعلت بطولة البقاء علي قيد الحياة مستحيلة أكثر فأكثر، فلم يبق في جيوبهم شيء يواجهون به الزيادات الفلكية في الأسعار، ولا بقية من مقدرة علي احتمال نيران الغلاء، فزيادة أسعار البنزين وأخواته، ثم الاعتراف الرسمي بهلاك الجنيه، يدفع بأغلب الناس إلي ما تحت خط الفقر، ولا يبقي لهم حتي حق الصراخ، ولا تكاليف إقامة مآتم الأحزان، بينما بدت الأفراح والليالي الملاح ظاهرة فاقعة علي الجانب الآخر، فقد فرح المضاربون الأجانب في البورصة، وحصدوا مكاسب يومية بعشرات المليارات، وفرح من يسمونهم برجال الأعمال، وأقامت تليفزيونات رجال الأعمال أعراسا ليلية صاخبة في المناسبة السعيدة، وامتدحت الحكومة لأنها عرفت أخيرا كيف تقرر لصالحهم، وكيف تصغي وتنفذ شروط صندوق النقد الدولي بلا تلكؤ ولا مراجعة، وبلا خوف من غضب ملايين المعذبين في البيوت والأسواق والشوارع. والأنكي، أن تليفزيونات المليارديرات راحت تزايد علي وطنية أغلب المصريين، وتدعوهم لاحتمال الغلاء والعذاب لإنقاذ اقتصاد مصر المنهك، ودون أن تتذكر سؤال الرئيس السيسي الشهير المتكرر »بكام ومنين؟»، فدخول وأجور الغالبية لا تفي بشيء من متطلبات الحياة في الحد الأدني الضروري، ومآسي الفقر والبطالة والتعاسة والمرض تنهش أبدان غالبية المصريين، وحتي »الفرقة الناجية» التي تعمل وتتلقي مقابلا ماليا زهيدا، فلا يصل متوسط أجورها إلي عشر متوسط الأجر العالمي، بينما يطلب منها أن تشتري كل شيء بالسعر العالمي، وما قيل إنه زيادات في الأجور أثقلت كاهل الموازنة العامة خلال السنوات الأخيرة، يعايرون به صغار وأواسط الموظفين، وكأنهم هم الذين سرقوا البلد وليس مليارديرات المال الحرام، مع أن الحد الأدني للأجور لم يطبق بعد الثورة إلا في دواوين الحكومة وحدها، ولم يطبقه أحد من الحيتان الذين يسمونهم برجال الأعمال، وظلت أجور العاملين في القطاع الخاص متهافتة، لا تكفي لشراء العيش الحاف وطبق الفول، بينما ذهبت الزيادات الرقمية في أجور العاملين بالحكومة إلي حيث ألقت، وهلكت في وباء الغلاء، وأصبحت قيمة الجنيه السوقية أقل من ثمن ورق طباعته، وقد صبر الناس واحتملوا، ودون أن يجدوا سوي المزيد من مطارق الغلاء تهوي فوق الرءوس، فلا شيء من مصاعب الحياة وتكاليفها الضرورية يقف عند حد، فأسعار الكهرباء تزداد سنويا، وتلحقها فواتير المياه والغاز، وزيادات أسعار البنزين ومشتقاته لن تكون الأخيرة، وسوف تتكرر سنويا إلي نهاية العقد الجاري، فهذه هي روشتة صندوق النقد الدولي، والتي تسميها الحكومة برنامجا وطنيا، تتصور أنه قد يخفض العجز في الموازنة العامة، فليس عند الصندوق ولا الحكومة من وصفة سوي تقليل الإنفاق الاجتماعي، وإنهاء حكايات الدعم وسنينه، بينما تتحدث الحكومة في ذات الوقت عن برامج حماية اجتماعية علي طريقة صدقات برنامج »تكافل وكرامة»، وتتناسي أن برامج دعم الطاقة والسلع الغذائية هي جوهر الحماية الاجتماعية، وهي التي تردم جانبا يسيرا من الفجوة المرعبة بين تدني الأجور وغلاء الأسعار، فالحكومة تلغي برامج الحماية الاجتماعية الحقيقية مقابل وعود عبثية بالحماية الاجتماعية الوهمية، وتواصل الحديث الممجوج المكذوب عن رعاية »محدودي الدخل»، وكأن هؤلاء مجرد شريحة محدودة في المجتمع المصري الآن، بينما أرقام الحكومة ذاتها تكذب مزاعمها، وتضع قرابة نصف المصريين تحت خط الفقر الدولي النسبي، وهذه النسبة الرسمية أقل كثيرا من الحقيقة العارية القاسية، والتي تنزلق بنحو تسعين بالمئة من المصريين إلي هوة المستحقين للصدقات والزكوات، ويطلب منهم وحدهم دفع الفواتير الكاملة لإنقاذ الاقتصاد المعتل، بينما العشرة بالمئة الطافية علي السطح، وفي مقدمتهم طبقة الواحد بالمئة التي تحتكر نصف ثروة البلد، تقدم لهم الجوائز والعطايا والاعفاءات والامتيازات، ولم تكن مصادفة أن قرارات إشعال الغلاء أعقبت قرار إعفاء مضاربي البورصة من ضريبة الأرباح الرأسمالية، ولا هي مصادفة أن لا أحد في الحكومة يفكر جديا في فرض نظام الضرائب التصاعدية، والتي تصل في أعلي شرائحها إلي ستين بالمئة بالمتوسط في كل رأسماليات الدنيا، بينما الحد الأقصي لضرائب الدخل في مصر يقف عند سقف 22.5%، هذا إن كانت تطبق أصلا، ولا يجري التهرب منها ببركة الفساد، كما يجري التهرب من أداء الجمارك المستحقة، وإهدار مبالغ سنوية علي إيرادات الدولة تصل إلي مئات المليارات من الجنيهات. جوهر المأساة إذن ظاهر بغير التباس، وهو انحياز الاختيارات الحاكمة ضد الغالبية العظمي من الفقراء والطبقات الوسطي، ومقابل تدليل من يسمونهم بالمستثمرين ورجال الأعمال، ومعهم طوائف »البكوات» و»الباشوات» في الحكومة والجهاز الإداري، ويكفي أن عوائد الفئات المستثناة من تطبيق الحد الأقصي للأجور تكلف موازنة الدولة 20 مليار جنيه سنويا، والرقم أكبر مما يوفره للدولة إلغاء دعم البنزين ومشتقاته، وتكلفة قضية فساد توريد القمح وحدها أكبر من ميزانية دعم البنزين، فوق أن أجور »البكوات» المستشارين الإداريين أكبر بكثير، وإلغاء ضريبة البورصة والضريبة الاجتماعية ضيع علي الدولة خمسة أضعاف عوائد إلغاء الدعم بالكامل، وفواتير الفساد الجديد والقديم تقدر بالتريليونات، وهو ما يعني اتصال النزيف، وتوقع استمرار وزيادة العجز المخيف في موازنة الدولة، ومضاعفة تكلفة وأعباء خدمة الديون الخارجية الدولارية، والقفز بالرقم في الموازنة إلي الضعف بعد تعويم الجنيه وخفض قيمته للنصف، وبما قد يلتهم أكثر من نصف الموازنة بعد مضاعفة سعر الدولار رسميا، فوق إضافة ديون خارجية جديدة، وإغراق البلد بالديون بعد حرق غالب أهلها في أفران الغلاء.