التناقض اللغوي ظاهر في العنوان أعلاه، فالإصلاح شئ مطلوب ومرغوب، والمفترض أن نستزيد منه لا أن نستكفي، لكن كل شئ تلوث في مصر، حتي اللغة تحورت وتزيفت، وانخلعت فيها المعاني عن مباني ألفاظها، وصار الإصلاح الاقتصادي بالذات كلمة سيئة الصيت، ما إن تسمعها حتي تتحسس دماغك، ودعك من تحسس جيوبك، فلم يبق فيها شئ قابل للمس غالبا، والإصلاح الذي جربوه فينا سنينا عددا، انتهي إلي خراب مستعجل بالجملة، دمر اقتصاد البلد، وأنهك عافية التنمية، ودفع أغلب المصريين إلي ما تحت خطوط الفقر والبطالة والمرض والعنوسة والبؤس. وهم يعودون اليوم إلي ترديد نغمة الإصلاح نفسها، ويعزفون ذات الأسطوانة المشروخة، والتي أصمت آذاننا علي مدي ثلاثين سنة مضت، وبذات الوصفة التي لا تتبدل ولا تتغير عناصرها، ويعدون الناس باقتصاد السمن واللبن والعسل، ولكن بعد أن تأخذ جرعة الدواء المر كاملة، ذات الدواء الذي أخذه البلد مرارا، ولم ينته به أبدا إلي شفاء ولا إلي شبهة تحسن، بل انتهي الدواء إلي استفحال الداء، والعودة إلي ذات الوجع منقحا ومزيدا ومضاعفا، وفي كل مرة، يعودون إلي ذات الجرة، فالمهم أن يرضي عنا صندوق النقد الدولي وأخوه البنك الدولي، والمطلوب غاية في البساطة، مجرد حزمة «قرارات صعبة» من إياها، خفض لدعم المواد البترولية إلي أن يتم شطبه كليا، ومضاعفة أسعار تذاكر المترو والقطارات والمواصلات والنقل، وزيادات إضافية متلاحقة في فواتير المياه والكهرباء والخدمات الحكومية، فوق الغلاء الذي تضيفه ضريبة القيمة المضافة، إضافة لتعويم سعر صرف الجنيه، والاعتراف الرسمي بعظمة وأبهة جنون الدولار، ورفع الأسعار المرتفعة الملتهبة أصلا إلي مقام الجنون نفسه، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وتجميد الأجور والمعاشات علي هزالها وتدنيها المفزع، والتضحية بما تبقي من أصول الملكية العامة، وخصخصة و»مصمصة» البنوك والشركات الاستراتيجية الرابحة، وكل ذلك حتي تعتدل موازين الموازنة المنهكة، ويصفو لنا مزاج صندوق النقد الدولي، ويتكرم بمنحنا قروضا، قيل انها تصل إلي 12 مليار دولار علي ثلاث سنوات، وزادت البشريات إلي توقع اقتراض 21 مليار دولار جديدة ببركة شهادة الصندوق، وكأن البلد «ناقص ديون»، فقد بلغت ديوننا الخارجية إلي 54 مليار دولار حتي ما قبل ثلاثة شهور، وإضافة القروض الجديدة إلي غيرها مما نعلم ولا نعلم، قد يقفز بهم الديون الخارجية إلي حاجز المئة مليار دولار، فوق ما نعرفه من حجم الديون الداخلية التي تناهز إجمالي حجم الناتج القومي، وإضافة تلال الهم علي رأس «الزبون» الذي هو المواطن العادي، ومن بعده أولاده وأولاد أولاده من أجيال تأتي، وحيث تكون الحكومات الحالية، والحكومات التي تلحق، قد ذهبت إلي قبور النسيان، ونجت من كل حساب أو عقاب دنيوي، وصارت سطورا سوداء في دفاتر الذكريات الأليمة. ولا يغرنك الكلام اللطيف الذي يسوقونه، ومن عينة «وطنية» برنامج الإصلاح، أو تشجيع الاستثمار الذي تحول عندنا من زمن إلي «استحمار»، أو العبارة المضجرة إياها عن عدم المساس بمحدودي الدخل، فالكلام هو نفسه الذي قالوه للناس مرارا، وكان المخلوع مبارك يردد العبارة ذاتها، وهي كلمة عنصرية بامتياز، تتحدث عن محدودي الدخل إياهم، وكأنهم جماعة من المعوقين بالخلقة، أو كأن الأقدار شاءت لهم وضعهم المتدني، وليس السياسات والاختيارات الحاكمة، والتي جعلتهم من «منهوبي الدخل» لا محدودي الدخل، وزادت في أعدادهم تباعا، وحتي صاروا أغلبية المصريين، وبنسبة تصل إلي تسعين بالمئة من الشعب المصري، لا تملك بالكاد سوي ربع الثروة الوطنية، بينما يملك 9% من المصريين الناجين مؤقتا ربعا آخر، وتملك شريحة الواحد بالمئة من الأغنياء نصف الثروة بالتمام والكمال، وهؤلاء لا يجرؤ أحد علي الاقتراب من ثرواتهم وممالكهم و»كومباونداتهم»، ولا كنس فسادهم الذي شفط دخل البلد وأصولها، ولا فرض نظام الضرائب التصاعدية المعمول به في كل الدنيا، فأعلي حد لضريبة الدخل في مصر 22.5% لاغير، بينما المتوسط العالمي يصل إلي خمسين بالمئة، إضافة لإقامة أوكازيون ضرائب مجاني للأغنياء، فقد جري وقف العمل بالضريبة الهزيلة التي كانت تقررت علي أرباح البورصة، وألغيت الضريبة الاجتماعية الإضافية، وكانت نسبتها 5% لاغير علي من تزيد أرباحهم علي المليون جنيه سنويا، والأنكي أن السلطة رفضت كل النداءات العاقلة التي صدرت حتي عن بعض رجال الأعمال، وتغاضت عن طلب جمعية المستثمرين برفع الحد الأقصي للضرائب إلي ثلاثين بالمئة علي الأقل، فليس من طبع حكوماتنا أن تفكر في شئ من العدالة الاجتماعية، ولا حتي بعد ثورتين كأنهما لم تحدثا أصلا، والأفضل عندهم هو العودة إلي ما كان، وتحميل الفواتير كلها لأغلبية المصريين من الفقراء والطبقات الوسطي، والعودة إلي تجريب المجرب المخرب، ومنذ دخل صندوق النقد الدولي علي خط اقتصاد مصر بكثافة مع النصف الثاني للثمانينيات، وأوصي بروشتة «التثبيت النقدي» و»التكييف الهيكلي»، وهي مصطلحات أنيقة تبدو ملغزة لعوام الناس، لكن المصريين العاديين فكوا شفراتها وغرقوا في مآسيها، وعلي مدي ربع قرن سبق ثورة خلع مبارك، ولم تؤد الوصفة إياها إلا إلي النتيجة إياها، وهي زيادة غني الأغنياء ومضاعفة فقر الفقراء، وانزلاق غالب الطبقات الوسطي إلي هوة الفقر السحيق، ونشر الاضطراب والقلق الاجتماعي والسياسي، وإغراق البلد في ديون تودي باستقلالها وكفاءة اقتصادها، وعلي نحو ما حدث في غزوات الصندوق لبلدان كثيرة في العالم، فلم يدخل «صندوق النقد الدولي» بلدا إلا وخربه، وهو ما جعله يحمل بجدارة صفة صندوق «النكد» لا صندوق النقد. وقد وعدنا الرئيس السيسي بالبحث عن أفكار وبدائل خارج الصندوق، لكننا نعود الآن لوضع الأسري داخل الصندوق نفسه، وإلي لعنة الإصلاح القديمة ذاتها.