مصطلح الإسلام السياسي واحد من المصطلحات التي أثارت ولاتزال تثير جدلا واسعًا حول علاقة الإسلام بالسياسة، وهل هو في قلبها أو بمعزل عنها ؟ وهل التداخل بينهما تداخل طبيعي منطقي أو أن الفصل بينهما أمر حتمي ؟ علي أن كل هذه التساؤلات ما كانت لتطرح قبل استغلال بعض الجماعات المتطرفة للدين لأغراض تحقق مصالحها لا لمصالح الإسلام والمسلمين ولا مصالح الوطن، ولا الدول الآمنة المستقرة، حيث استخدمت هذه الجماعات الدين لخداع العامة، والحصول علي تأييدهم ودعمهم الانتخابي أو الأيديولوجي لاعتلاء سدة السلطة وتوظيفها هي الأخري لصالح الجماعة وأفرادها وعناصرها مع إقصاء مقيت لكل من لا ينتمي إلي الجماعة أي جماعة تتاجر بالدين وتخادع به، ورمي المجتمع بالجاهلية أو الكفر أو الفسق والابتداع علي نحو ما تؤصل له أفكار جماعة الإخوان الإرهابية وغيرها من الجماعات المتطرفة، في محاولة للتغطية علي أهدافها ومطامعها والعمل علي تجييش من تستطيع من الشباب المندفعين المتهورين لمناصرتها في وجه الدولة التي لا تؤمن هي بها في سبيل سعيها الدائم للسطو علي مقاليد الأمور. إنني لا أري مشكلا علي الإطلاق بين الإسلام والسياسة لدي من يفهمون الإسلام فهمًا صحيحًا مستنيرًا، ومن يفهمون السياسة فهمًا وطنيًا مستقيمًا، فهما قادران علي التعايش والتكامل وتحقيق مصلحة الفرد والمجتمع، كما لا أري تناقضًا ولا تقابلا بين علماء الدين والمثقفين فقد تتداخل الصفتان، وتصير العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص وجهي علي حد تعبير المناطقة، وإن كان لكل منهما منهجه في معالجة القضايا والمستجدات وطرق حل المشكلات. المشكلة إذن في سوء الفهم وتوظيف الدين أو حتي السياسة لمصالح خاصة قد تقتضي من وجهة نظر غير الوطنيين وغير المؤهلين إقصاء الآخر، سواء بمحاولة إقصاء الدين عن دنيا الناس إقصاءً تامًّا، أم بإقصاء الجماعات الدينية لمن لا يؤمن بأيديولوجياتها واتهامهم بالكفر أو الفسق أو الجاهلية. المشكلة إذن إنما هي في التطرف والإقصاء، وتتجلي المشكلة غاية التجلي في المتاجرة بالدين واستغلاله مطية لتحقيق مطامع لا علاقة لها بالدين ولا بالشرع الحنيف ولا بأي من الشرائع أو الأديان السماوية، فكل الشرائع السماوية تقوم علي قبول الآخر والإيمان بالتعدد وبحرية المعتقد، حيث يقول الحق سبحانه وتعالي في كتابه العزيز : » لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي »، ويقول سبحانه : » ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين ، إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم». فعندما تحدث القرآن الكريم عن تكريم الإنسان تحدث عن تكريم الإنسان علي إطلاق إنسانيته دون النظر إلي الدين أو الجنس أو اللون أو العرق أو اللغة أو الشكل أو المكانة الاجتماعية، فقال الحق سبحانه وتعالي: » ولقد كرمنا بني آدم ». وحين حرم الإسلام قتل النفس حرم قتل النفس أي نفس وكل نفس، ولم يحرم قتل النفس المسلمة فحسب أو النفس المؤمنة فحسب، فقال سبحانه وتعالي : » أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ». وعندما أمرنا الحق سبحانه وتعالي بحسن المعاملة أمرنا بحسن معاملة الناس جميعًا، فقال سبحانه: » وقولوا للناس حسنًا » ولم يقل : قولوا للمسلمين وحدهم أو للمؤمنين وحدهم حسنًا دون غيرهم، وعندما مرت جنازة يهودي بسيدنا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وقف ( صلي الله عليه وسلم) لها، فقيل يا رسول الله إنها جنازة يهودي، فقال (صلي الله عليه وسلم): » أليست نفسًا ؟ ». ولما رأي (صلي الله عليه وسلم) امرأة مسنة مقتولة في ساحة القتال، قال (صلي الله عليه وسلم) : » من قتلها ؟ ما كانت هذه لتقاتل »، مما يؤكد أن القتل إنما يكون علي المقاتلة والاعتداء، وليس جزاء للكفر، إذ لا يوجد في الإسلام قتل علي المعتقد. فعندما نفهم الإسلام فهما صحيحا ندرك أن الفتوي قد تتغير بتغير الزمان والمكان والحال، وأن ما كان راجحا في عصر قد يكون مرجوحًا في عصر آخر أو حالة أخري، وأن تنظيم شئون حياة الناس في أكثر جوانبها فيه متسع كبير لمراعاة طبيعة الزمان والمكان، وأن الشرائع قد راعت تحقيق مصالح البلاد والعباد، فحيث تكون المصلحة المعتبرة فثمة شرع الله (عز وجل)، وأهل العلم والفقه علي أن باب الاجتهاد لم ولن يغلق، إذ لم يخص الله ( عز وجل) بالفكر والاجتهاد قوما دون قوم أو زمان دون زمان. ولو أننا فهمنا الأديان بروحها السمحة، وفهمنا المنهج الإسلامي بما فيه من سعة ومرونة ومراعاة مصالح الناس لوجدنا أنه يدفع دفعًا إلي التقدم والرقي، وإلي التسامح وتأصيل فقه العيش المشترك بين البشر جميعا، وإلي العمل والإنتاج لا البطالة والكسل، وإلي الخلق القويم وسائر المعاني الإنسانية السوية، ولما وجدنا أي تضارب أو تناقض بينه وبين عمارة الكون وبناء الحضارات، بل وجدناه خير دافع وداعم لذلك كله. أما المشكل الحقيقي فهو في هذه الجماعات المتطرفة التي انحرفت بالدين عن سماحته ومعانيه السامية، وعملت علي توظيفه لتحقيق مطامعها السياسية ومصالح أفرادها الشخصية، وأخذوا يلوون عنق نصوصه لخدمة أيديولوجياتهم، وألحوا علي ذلك حتي ربط البعض فهم الإسلام بالسلوكيات الخاطئة لهذه الجماعات المتطرفة ومناهجها المنحرفة المحرفة، مما يتطلب جهدًا غير عادي وغير نمطي وغير تقليدي لبيان حقيقة هذه الجماعات التي صارت عبئا علي الإسلام وعلي الوطن وعلي الإنسانية في آن واحد، مع اتخاذ الإجراءات التي تردع هذه الجماعات المتاجرة بالدين، ولا يكون ذلك إلا بإسناد الدعوة والفتوي إلي أهلها المتخصصين دون سواهم، وعدم السماح لأي من أعضاء الجماعات الإرهابية المتطرفة والمتشددة باقتحام عالم الدعوة والفتوي الذين يعملون علي اقتحامه خلسة أو عنوة.